فصل: 927- باب ما جَاءَ إذَا حُدّتِ الْحُدُودُ وَوَقَعَتِ السّهَامُ فَلاَ شُفْعَة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري ***


919- باب فِيمَنْ تَزَوّجَ امْرَأَةَ أبِيه

1360- حدثنا أبُو سعَيدٍ الأشجّ‏.‏ حَدّثَنَا حفَصُ بنُ غِيَاثٍ عنْ أشْعَثَ، عَنْ عَدِيّ بن ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ قالَ‏:‏ مَرّ بِي خَالِي أبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَمَعَهُ لِوَاءٌ فَقلت‏:‏ أَيْنَ تُرِيدُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَعَثَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلَى رَجُلٍ تَزَوّجَ امْرَأَةَ أبِيهِ، أنْ آتيَهُ بِرَأْسِهِ‏.‏ قال وفي البابِ عَنْ قُرّةَ المزني‏.‏

قال أبو عيسى حَدِيثُ الْبَرَاءِ حديثٌ حسنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رَوَى مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ هَذَا الْحَدَيثَ عَنْ عَدِي بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْبَرَاءِ‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ هذَا الْحَدِيثُ عَنْ أشْعَثَ، عَنْ عَدِي، عَنْ يزيد بن الْبَرَاءِ عَنْ أبِيهِ‏.‏ وَرُوِيَ عَنْ أشْعَثَ، عَنْ عَدِي، عَنْ يَزِيدَ بْنِ البَرَاءِ، عَنْ خَالِهِ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مر بي خالي أبو بردة بن نيار‏)‏ بكسر النون بعدها تحتية خفيفة حليف الأنصار ‏(‏ومعه لواء‏)‏ بكسر اللام أي علم قال المظهر‏:‏ وكان ذلك اللواء علامة كونه مبعوثاً من جهة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر ‏(‏بعثني‏)‏ أي أرسلني ‏(‏أن آتيه‏)‏ أي آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏برأسه‏)‏ أي برأس ذلك الرجل وفي رواية لأبي داود وللنسائي وابن ماجه والدارمي‏:‏ فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله‏.‏ والحديث دليل على أنه يجوز للإمام أن يأمر بقتل من خالف قطعياً من قطعيان الشريعة كهذه المسألة فإن الله تعالى يقول ‏(‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء‏)‏ ولكنه لا بد من حمل الحديث على أن ذلك الرجل الذي أمر صلى الله عليه وسلم بقتله عالم بالتحريم وفعله مستحلاً وذلك من موجبات الكفر والمرتد بقتل‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن قرة‏)‏ لينظر من أخرجه‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏حديث البراء حديث حسن غريب‏)‏ أخرجه الخمسة‏.‏ قال الشوكاني‏:‏ وللحديث أسانيد كثيرة منها ما رجاله رجال الصحيح ‏(‏وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن عدي بن ثابت الخ‏)‏ قال المنذري‏:‏ قد اختلف في هذا الحديث اختلافاً كثيراً فذكره، من شاء الوقوف عليه فليرجع إلى النيل‏.‏

920- باب ما جَاءَ في الرّجُليْنِ يكُونُ أحدُهُمَا أسْفَلَ مِنَ الاَخَرِ في المَاء

‏(‏باب ما جاء في الرجلين يكون أحدهما أسفل من الاَخر في الماء‏)‏ المراد بالأسفل الأبعد أي يكون أرض أحدهما قربية من الماء وأرض الاَخر بعيدة منها

1361- حدثنا قُتَيْبَةُ‏.‏ حَدثنَا اللّيثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أنّهُ حَدّثَهُ، أنّ عَبْدَ الله بْنَ الزّبَيْرِ حَدّثَه أنّ رَجُلاً مِنّ الأنْصَارِ خَاصَمَ الزّبَيْر عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في شِرَاجِ الْحَرّة الّتِي يَسقُونَ بهَا النّخْلَ‏.‏ فقَالَ الأنْصَارِيّ‏.‏ سَرّحِ المَاءِ يَمُرّ‏.‏ فأَبَى عَلَيْهِ‏.‏ فَاخْتَصَمُوا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم للزّبَيْرِ‏:‏ ‏"‏اسْقِ يَا زُبَيْرِ ثمّ أرْسلِ المَاءِ إلى جَارِكَ‏"‏ فَغَضِبَ الأنْصَارِيّ‏:‏ فَقَالَ يا رسول الله أنْ كانَ ابْنَ عَمّتِكَ‏؟‏ فَتَلَوّنَ وَجْهُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثمّ قالَ‏:‏ ‏"‏يا زُبَيْر اسْقِ ثمّ احْبِسِ الْماءَ حتّى يَرْجِعَ إلى الْجَدْرِ‏"‏ فَقالَ الزّبَيْرُ‏:‏ وَالله إنّي لأحْسِبُ نَزَلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ في ذَلِكَ‏.‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكّموكَ فِيما شَجَر بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ‏.‏

وَرَوَى شُعَيْبُ بنُ أبي حَمْزَةَ عنِ الزّهْرِيّ، عنْ عُرْوَةَ بنِ الزّبَيْرِ، عنِ الزّبَيْرِ، ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ ‏(‏عَنْ عَبْدِ الله بنِ الزبيْرِ‏)‏‏.‏ وَرَوَاهُ عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ عنِ اللّيْثِ‏.‏ ويُونُسُ عنِ الزّهْرِيّ، عنْ عُرْوَةَ، عنْ عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ‏.‏ نحْوَ الْحَدِيثِ الأوّلِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن رجلاً من الأنصار‏)‏ زاد البخاري روايته في كتاب الصلح‏:‏ قد شهد بدرا‏.‏ قال الداودي بعد جزمه بأنه كان منافقاً، وقيل كان بدرياً فإن صح فقد وقع ذلك منه قبل شهودها لانتقاء النفاق ممن شهدها‏.‏ وقال ابن التين‏:‏ إن كان بدرياً فمعنى قوله لا يؤمنون لا يستكملون‏.‏ كذا في فتح الباري‏.‏ وقال القاري في المرقاة‏:‏ قال التوربشتي رحمه الله‏:‏ وقد اجترأ جمع من المفسرين بنسبة الرجل تارة إلى النفاق وأخرى إلى اليهودية، وكلا القولين زائغ عن الحق إذ قد صح أنه كان أنصارياً ولم يكن الأنصار من جملة اليهود‏.‏ ولو كان مغموضاً عليه في دينه لم يصفوا بهذا الوصف فانه وصف مدح‏.‏ والأنصار وإن وجد منهم من يرمي بالنفاق فإن القرن الأول والسلف بعدهم تحرجوا واحترزوا أن يطلقوا على من ذكر بالنفاق، واشتهر به الأنصاري‏.‏ والأولى بالشحيح بدينه أن يقول هذا قول أذله الشيطان فيه بتمكنه عند الغضب وغير مستبدع من الصفات البشرية الإبتلاء بأمثال ذلك انتهى ما في المرقاة ‏(‏خاصم الزبير‏)‏ أي ابن العوام ابن صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم أي حاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏في شراج الحرة‏)‏ بكسر المعجمة وبالجيم جمع شرج بفتح أوله وسكون الراء مثل بحر وبحار‏.‏ والمراد بها هنا مسيل الماء، وإنما أضيفت إلى الحرة لكونها فيها، والحرة موضع معروف بالمدينة قال أبو عبيد‏:‏ كان بالمدينة واديان يسيلان بماء المطر فيتنافس الناس فيه فقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعلى فالأعلى كذا في الفتح ‏(‏فقال الأنصاري‏)‏ يعني للزبير ‏(‏سرح الماء‏)‏ أمر من التسريح أي أطلقه وأرسله، وإنما قال له ذلك لأن الماء كان يمر بأرض الزبير قبل أرض الأنصاري فيحبسه لإكمال سقي أرضه ثم يرسله إلى أرض جاره، فالتمس منه الأنصاري تعجيل ذلك فامتنع‏.‏ إعلم أنه وقع في النسخة الأحمدية شرح بالشين المعجمة وهو غلط ‏(‏فأبى‏)‏ أي الزبير ‏(‏عليه‏)‏ أي على الأنصاري ‏(‏اسق يا زبير‏)‏ بهمزة وصل من الثلاثي‏.‏ وحكى ابن التين أنه بهمزة قطع من الرباعي قاله الحافظ ‏(‏ثم أرسل الماء إلى جارك‏)‏ فإن أرض الزبير كانت أعلى من أرض الأنصاري ‏(‏أن كان ابن عمتك‏)‏ بفتح همزة أن أي حكمت بذلك لأجل أن كان أو بسبب أن كان قال القاضي‏:‏ وهو مقدر بأن أو لأن‏.‏ وحرف الجر يحذف معها للتخفيف كثيراً فإن فيها مع صلتها طولا‏.‏ أي وهذا التقديم والترجيح لأنه ابن عمتك أو بسببه ونحوه قوله تعالى ‏{‏أن كان ذا مال وبنين‏}‏ أي لا تطعه مع هذا المثالب لأن كان ذا مال ‏(‏فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي تغير من الغضب ‏(‏حتى يرجع إلى الجدر‏)‏ أي يصير إليه والجدر بفتح الجيم وسكون الدال المهملة هو المسناة وهو ما وضع بين شربات النخل كالجدار وقيل المراد الحواجز التي تحبس الماء، ويروي الجدر بضم الدال وهو جمع جدار والمراد جدران الشربات التي في أصول النخل فإنها ترفع حتى تصير شبه الجدار والشربات بمعجمة وفتحات هي الحفر التي تحفر في أصول النخل ‏(‏فلا وربك‏)‏ لا زائدة ‏(‏لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر‏)‏ أي اختلط ‏(‏بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً‏)‏ ضيقاً أو شكاً ‏(‏مما قضيت ويسلموا‏)‏ ينقادوا لحكمك ‏(‏تسليماً‏)‏ من غير معارضة ‏(‏الاَية‏)‏ بالنصب أي أتم الاَية‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن‏)‏ وأخرجه الشيخان قوله‏:‏ ‏(‏وروى شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن عروة بن الزبير عن الزبير ولم يذكر فيه عن عبد الله بن الزبير‏)‏ أخرجه البخاري في الصلح من صحيحه ‏(‏نحو الحديث الأول‏)‏ أي الذي أسنده الترمذي وقد بسط الحافظ في الفتح الكلام في بيان الاختلاف‏.‏

921- باب ما جَاءَ فِيْمَنْ يُعْتِقُ مَمالِيكَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُم

1362- حدثنا قُتَيْبَةُ‏.‏ حَدّثَنَا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ، عنْ أيّوبَ، عَنْ أبي قِلاَبَةَ، عنْ أبي المُهَلّبِ، عنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ أنّ رَجُلاً مِنْ الأنْصَارِ أعْتَقَ سِتّةَ أعْبُدٍ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ‏.‏ فَبَلَغَ ذَلِكَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقالَ لَهُ قَوْلاً شَدِيداً‏.‏ ثُمّ دَعَاهُمْ فَجَزّأَهُمْ ثُمّ أقْرَعَ بَيْنَهُمْ‏.‏ فأعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقّ أرْبَعَةً‏.‏ قال وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ‏.‏

قال أبو عيسى حدِيثُ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلمِ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم‏.‏ وهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ والشّافَعِيّ وَأَحْمَدَ وإسْحَاقَ يَرَوْنَ استعمال الْقُرْعَةَ في هَذا وفِي غَيْرِهِ‏.‏ وأمّا بَعْضُ أهْلِ العِلمِ مِنْ أهْلِ الْكُوفَةِ وغَيْرِهِمْ فَلمْ يَرَوُا القُرْعَةَ‏.‏ وقَالُوا‏:‏ يُعْتَقُ مِنْ كلّ عَبْدٍ الثّلُثُ‏.‏ ويُسْتَسْعَى في ثُلُثَيْ قِيمتِهِ‏.‏ وأبُو المُهَلّبِ اسْمُهُ عَبْدُ الرّحمَنِ بنُ عَمْرٍو الجُرميّ وهو غير أبي قلابة وَيُقَالُ مُعَاوِيةُ بنُ عَمرٍو وأبو قلابة الجرمى اسمه عبدالله بن زيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اعتق ستة أعبد‏)‏ جمع عبد أي ستة مماليك ‏(‏فقال له قولا شديداً‏)‏ كراهة لفعله وتغليظاً عليه لعتق العبيد كلهم وعدم رعاية جانب الورثة ‏(‏ثم دعاهم‏)‏ أي طلبهم ‏(‏فجزاهم‏)‏ قال النووي بتشديد الزاي وتخفيفها لغتان مشهورتان ذكرهما ابن السكيت وغيره، أي فقسمهم وفي رواية مسلم فجزأهم ‏(‏ثلاثاً وأرق أربعة‏)‏ أي أبقى حكم الرق على الأربعة‏.‏ ودل الحديث على أن الإعتاق في مرض الموت ينفذ عن الثلث لتعلق حق الورثة بماله وكذا التبرع كالهبة ونحوه‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن أبي هريرة‏)‏ قوله‏:‏ ‏(‏حديث عمران بن حصين حديث حسن صحيح‏)‏ أخرجه الجماعة إلا البخاري كذا في المنتقى‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وهي قول مالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحاق يرون القرعة في هذا وفي غيره‏)‏ وهو قول الجمهور قال الإمام البخاري في صحيحه‏:‏ باب القرعة في المشكلات، وذكر فيه عدة أحاديث كلها تدل على مشروعية القرعة قال الحافظ في الفتح‏:‏ وجه إدخالها في كتاب الشهادات أنها من جملة البينات التي تثبت بها الحقوق فكما تقطع الخصومة والنزاع بالبينة، كذلك تقطع بالقرعة ومشروعية القرعة مما اختلف فيه، والجمهور على القول بها في الجملة وأنكرها بعض الحنفية‏.‏ وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة القول بها وجعل المصنف يعني البخاري رحمه الله ضابطها الأمر المشكل‏.‏ وفسرها غيره بما يثبت فيه الحق لاثنين فأكثر وتقع المشاحة فيه فيقرع لفصل النزاع‏.‏ وقال إسماعيل القاضي‏:‏ ليس في القرعة إبطال الشيء من الحق كما زعم بعض الكوفيين، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ثم يقترعوا، فيصير لكل واحد ما وقع له بالقرعة مجتمعاً مما كان له في الملك مشاعاً فيضم في موضع بعينه ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه‏.‏ لأن مقادير ذلك قد عدلت بالقيمة، وإنما أفادت القرعة أن لا يختار واحد منهم شيئاً معيناً فيختاره الاَخر فيقطع التنازع‏.‏ وهي إما في الحقوق المتساوية وإما في تعيين الملك‏.‏ فمن الأول عقد الخلافة إذا استووا في صفة الإمامة‏.‏ وكذا بين الأئمة في الصلوات، والمؤذنين، والأقارب في تغسيل الموتى والصلاة عليهم، والحائضات إذا كن في درجة، والأولياء في التزويج والاستباق إلى الصف الأول‏.‏ وفي إحياء الموات‏.‏ وفي نقل المعدن ومقاعد الأسواق‏.‏ والتقديم بالدعوى عند الحاكم والتزاحم على أخذ اللقيط، والنزول في الخان المسبل ونحوه، وفي السفر ببعض الزوجات، وفي ابتداء القسم والدخول ابتداء النكاح، وفي الإقراع بين العبيد إذا أوصى بعتقهم ولم يسعهم الثالث، وهذه الأخيرة من صور القسم الثاني أيضاً وهو تعيين الملك ومن صور تعيين الملك الإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة انتهى كلام الحافظ‏.‏ ‏(‏وأما بعض أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم فلم يروا القرعة‏)‏ وهو قول أبي حنيفة‏.‏ وحديث الباب حجة على هؤلاء والقول الأول هو الحق والصواب‏.‏ ‏(‏وقالوا يعتق من كل عبد‏)‏ أي من الأعبد الستة ‏(‏الثلث‏)‏ أي ثلثه ‏(‏يستسعى‏)‏ بصيغة المجهول أي كل عبد ‏(‏في ثلثي قيمته‏)‏ فإن ثلثه قد صار حراء قوله‏:‏ ‏(‏وأبو المهلب اسمه عبد الرحمن بن عمرو الخ‏)‏ قال في التقريب ثقة من الثانية‏.‏

922- باب ما جَاءَ فِيْمَنْ مَلكَ ذَا رحم مَحْرَم

1363- حدثنا عَبْدُ الله بنُ معاوية الجُمَحِيّ البصرى حَدّثنَا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عن الحَسَنِ، عن سَمُرَةَ أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ ‏"‏مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمِ فَهُوَ حُرّ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ لا نَعْرِفُهُ مُسْنداً، إلاّ مِنْ حَدِيثِ حَمّادِ بنِ سلَمَةَ‏.‏ وقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ قَتَادَةَ، عنِ الْحَسَنِ، عن عُمَرَ، شَيْئاً مِنْ هَذَا‏.‏

حدثنا عُقْبَةُ بنُ مُكْرَمٍ الْعَمّيّ البَصَرِيّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قَالُوا حَدّثَنَا مُحَمّدُ بنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيّ‏.‏ عَنْ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ، عنْ قَتَادَةَ‏.‏ وعَاصِمٌ الأحْوَلُ عنِ الْحَسَنِ، عنْ سَمُرَةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ ‏"‏مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرّ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى ولاَ نَعْلَمُ أحَداً ذَكَرَ في هَذَا الْحَدِيثِ عَاصِماً الأحْوَلَ عنْ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ، غَيْرَ مُحَمّدِ بنِ بَكْرٍ‏.‏ والْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلمِ‏.‏ وقَدْ رُوِيَ عنِ ابنِ عُمَرَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرّ‏"‏ رَوَاهُ ضَمْرَةُ بنُ رَبِيعَةَ عنْ الثّوْرِيّ، عنْ عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولا يُتَابَعُ ضَمْرَة عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ‏.‏ وهُوَ حدِيثٌ خطَأٌ عِنْدَ أهْلِ الْحَدِيثِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من ملك ذا رحم‏)‏ بفتح الراء وكسر الحاء وأصله موضع تكوين الولد ثم استعمل للقرابة فيقع على كل من بينك وبينه نسب يوجب تحريم النكاح ‏(‏محرم‏)‏ بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الراء المخففة ويقال محرم بصيغة المفعول من التحريم‏.‏ والمحرم من لا يحل نكاحه من الأقارب كالأب والأخ والعم ومن في معناهم وهو بالجر، وكان القياس أن يكون بالنصب لأنه صفة ذا رحم لا نعت رحم ولعله من باب جر الجواد كقوله‏:‏ بيت ضب خرب، وماء شن بارد‏.‏ ‏(‏فهو‏)‏ أي ذو الرحم المحرم ذكرا كان أو أنثى ‏(‏حر‏)‏ أي عتق عليه بسبب ملكه‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث لا نعرفه مسنداً إلا من حديث حماد بن سلمة‏)‏ قال الحافظ في التلخيص‏:‏ ورواه شعبة عن قتادة عن الحسن ملاسلاً وشعبة أحفظ من حماد وقال علي بن المديني‏:‏ هو حديث منكر‏.‏ وقال البخاري لا يصح انتهى‏.‏ وقال الشوكاني لكن الرفع من الثقة زيادة لولا ما في سماع الحسن من سمرة مقال انتهى‏.‏ والحديث أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وقد روى بعضهم هذا الحديث عن قتادة عن الحسن عن عمر شيئاً من هذا‏)‏ أخرجه أبو داود عن قتادة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفاً عليه بمثل حديث سمرة‏.‏ قال المنذري‏:‏ وأخرجه النسائي وهو موقوف وقتادة لم يسمع عن عمر، فإن مولده بعد وفاة عمر بنيف وثلاثين سنة انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عقبة بن مكرم‏)‏ بضم الميم وسكون الكاف وفتح الراء ‏(‏العمى‏)‏ يفتح المهملة وتشديد الميم أبو عبد الملك البصري ثقة من الحادية عشر ‏(‏حدثنا محمد بن بكر البرساني‏)‏ بضم الموحدة وسكون الراء ثم مهملة أبو عثمان البصري صدوق يخطى من التاسعة‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏والعمل على هذا عند بعض أهل العلم‏)‏ قال ابن الأثير في النهاية‏:‏ والذي ذهب إليه أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد‏:‏ أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه ذكرا كان أو أنثى‏.‏ وذهب الشافعي وغيره من الأئمة والصحابة والتابعين إلى أنه يعتق عليه أولاد الاَباء والأمهات، ولا يعتق عليه غيرهم من ذوي قرابته‏.‏ وذهب مالك إلى أنه يعتق عليه الولد والوالدان والأخوة ولا يعتق غيرهم انتهى‏.‏ قال البيهقي وافقنا أبو حنيفة في بني الأعمام، أنهم لا يعتقون بحق الملك‏.‏ واستدل الشافعي ومن وافقه بأن غير الوالدين والأولاد لا يتعلق بها رد الشهادة، ولا يجب بها النفقة مع اختلاف الدين، فأشبه قرابة ابن العم وبأنه لا يعصبه فلا يعتق عليه بالقرابة كابن العم‏.‏ قال الشوكاني‏:‏ لا يخفى أن نصب مثل هذه الأقيسة في مقابلة حديث سمرة وحديث ابن عمر رضي الله عنه مما لا يلنفت إليه منصف‏.‏ والاعتذار عتهما بما فيهما من المقال ساقط لأنهما يتعاضدان فيصلحان للاحتجاج انتهى كلام الشوكاني‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏ولا يتابع ضمرة بن ربيعة على هذا الحديث‏)‏ قال الحافظ بن ربيعة الفلسطيني أبو عبد الله أصل دمشقي صدوق يهم قليلاً من التاسعة انتهى‏.‏ وفي الخلاصة وثقه أحمد وابن معين والنسائي وابن سعد ‏(‏وهو حديث خطأ عند أهل الحديث‏)‏ وقال النسائي‏:‏ حديث منكر‏.‏ وقال البيهقي‏:‏ وهم فيه ضمرة‏.‏ والمحفوظ بهذا الإسناد نهى عن بيع الولاء، وعن هبته‏.‏ ورد الحاكم هذا بأن روى من طريق ضمرة الحديثين بالإسناد الواحد‏.‏ وصححه ابن حزم‏.‏ وعبد الحق وابن القطان كذا في التلخيص‏.‏ وحديث ابن عمر هذا أخرجه ابن ماجه والنسائي والحاكم من طريق ضمرة التي ذكرها الترمذي‏.‏

923- باب ما جَاءَ فيمن زَرَعَ في أرْض قَومٍ بِغيْرِ إذْنِهِم

1364- حدثنا قُتَيْبَةُ‏.‏ حدّثنا شَرِيكُ بنُ عَبْدِ الله النّخَعِيّ، عَنْ أبي إسْحَاقَ عنْ عَطَاءٍ، عنْ رَافِعٍ بنِ خَدِيجٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ ‏"‏مَنْ زَرَعَ في أرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزّرْعِ شَيْءٌ، ولَهُ نَفَقَتُهُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ‏.‏ لاَ نَعْرِفُهُ مِنْ حَديثِ أبي إسْحَاقَ، إلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حدِيثِ شَرِيكِ بنِ عَبْدِ الله‏.‏ والعَملُ عَلَى هذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلمِ، وَهُوَ قَوْلُ أحْمَدَ وَإسْحَاقَ‏.‏ وَسَأَلْتُ مُحَمّدَ بنَ إسمَاعِيلَ عنْ هَذَا الْحَدِيثِ فقَالَ‏:‏ هُوَ حديثٌ حسنٌ‏.‏ وقالَ‏:‏ لا أعْرِفُه مِنْ حديثِ أبي إسْحَاقَ إلاّ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ‏.‏ قالَ مُحمّدٌ‏:‏ حَدّثَنَا مَعْقِلُ بنُ مَالِكٍ البَصْرِيّ‏.‏ حَدّثَنَا عُقْبَةُ بنُ الأصَم، عَنْ عَطَاءٍ، عنْ رَافِعٍ بنِ خَدِيجٍ، عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوهُ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليس له من الزرع شيء‏)‏ يعني ما حصل من الزرع يكون لصاحب الأرض، ولا يكون لصاحب البذر إلا بذره وإليه ذهب أحمد وقال غيره‏:‏ ما حصل من الزرع فهو لصاحب البذر وعليه نقصان الأرض، كذا نقله القاري عن بعض العلماء الحنفية‏.‏ ونقل عن ابن الملك أنه عليه أجرة الأرض من يوم غصبها إلى يوم تفريغها انتهى‏.‏ قلت ما ذهب إليه الإمام أحمد هو ظاهر الحديث ‏(‏وله نفقته‏)‏ أي ما أنفقه الغاصب على الزرع من المؤنة في الحرث والسقي وقيمة البذر وغير ذلك‏.‏ وقيل المراد بالنفقة قيمة الزرع فتقدر قيمته ويسلمها المالك والظاهر الأول‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وضعفه الخطابي، ونقل عن البخاري تضعيفه وهو خلاف ما نقله الترمذي عن البخاري من تحسينه‏.‏ وضعفه أيضاً البيهقي وهو من طريق عطاء بن أبي رباح عن رافع‏.‏ قال أبو زرعة لم يسمع عطاء من رافع وكان موسى بن هارون يضعف هذا الحديث ويقول لم يروه غير شريك‏.‏ ولا رواه عن عطاء غير أبي إسحاق ولكن قد تابعه قيس بن الربيع وهو سيء الحفظ‏.‏ كذا في النيل والحديث أخرجه الخمسة إلا النسائي كذا في المنتقى‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق‏)‏ قال ابن رسلان‏:‏ قد استدل به، كما قال الترمذي‏.‏ أحمد على أن من زرع بذرا في أرض غيره واسترجعها صاحبها فلا يخلو إما أن يسترجعها مالكها ويأخذها بعد حصاد الزرع أو يسترجعها والزرع قائم قيل أن يحصد فإن أخذها مستحقها بعد حصاد الزرع، فإن الزرع لغاصب الأرض لانعلم فيها خلافاً‏.‏ وذلك لأنه نماء ماله، وعليه أجرة الأرض إلى وقت التسليم، وضمان نقص الأرض وتسوية حفرها‏.‏ وإن أخذ الأرض صاحبها من الغاصب والزرع قائم فيها لم يملك إجبار الغاصب على قلعه، وخير المالك بين أن يدفع إليه نفقته ويكون الزرع له، أو يترك الزرع للغاصب‏.‏ وبهذا قال أبو عبيد‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ وأكثر الفقهاء أن صاحب الأرض يملك إجبار الغاصب على قلعه، واستدلوا يقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس لعرق ظالم حق‏"‏‏.‏ ويكون الزرع المالك البذر عندهم على كل حال وعليه كراء الأرض‏.‏ ومن جملة ما استدل به الأولون ما أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زرعاً في أرض ظهير فأعجبه فقال‏:‏ ‏"‏ما أحسن زرع ظهير‏"‏، فقالوا إنه ليس لظهير، ولكنه لفلان‏.‏ ‏"‏قال فخذوا زرعكم وردوا عليه نفقته‏"‏‏.‏ فدل على أن الزرع تابع الأرض‏.‏ ولا يخفى أن حديث رافع بن خديج أخص من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس لعرق ظالم حق مطلقاً‏"‏‏.‏ فيبني العام على الخاص وهذا على فرض أن قوله‏:‏ ليس لعرق ظالم حق‏.‏ يدل على أن الزرع لرب البذر، فيكون الراجح ما ذهب إليه أهل القول الأول من أن الزرع لصاحب الأرض إذا استرجع أرضه الزرع فيها‏.‏ وأما إذا استرجعها بعد حصاد الزرع، فظاهر الحديث أنه أيضاً لرب الأرض، ولكنه إذا صح الإجماع على أنه للغاصب كان مخصصاً لهذه الصورة، وقد روى عن مالك وأكثر علماء المدينة مثل ما قاله الأولون، وفي البحر أن مالكاً والقاسم يقولان‏:‏ الزرع لرب الأرض واحتج لما ذهب الجمهور من أن الزرع للغاصب بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الزرع للزراع، وإن كان غاصباً‏"‏‏.‏ ولم أقف على هذا الحديث فينظر فيه‏.‏ وقال ابن رسلان‏:‏ إن حديث‏:‏ ليس لعرق ظالم حق‏.‏ ورد في الغرس الذي له عرق مستطيل في الأرض‏.‏ وحديث رافع ورد في الزرع فيجمع بين الحديثين، ويعمل بكل واحد منهما في موضعه‏.‏ ولكن ما ذكرناه من الجمع أرجح لأن بناء العام على الخاص أولى من المصير إلى قصر العام على السبب من غير ضرورة‏.‏ انتهى كلام الشوكاني‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏قال محمد‏)‏ هو الإمام البخاري ‏(‏حدثنا معقل بن مالك البصري‏)‏ قال الحافظ مقبول من العاشرة، وزعم الأزدي أنه متروك فأخطأ ‏(‏حدثنا عقبة بن الأصم‏)‏ هو عقبة بن عبد الله الأصم الرفاعي البصري ضعيف وربما دلس، ووهم من فرق بين الأصم والرفاعي كابن حبان ‏(‏عن عطاء‏)‏ هو ابن أبي رباح‏.‏

924- باب ما جَاءَ في النّحْلِ والتّسْوِيَةِ بَيْنَ الْوَلِد

1365- حدثنا نَصْرُ بنُ عَلي وَ سَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ المَخْزُومِيّ ‏(‏المَعْنَى الْوَاحِدُ‏)‏ قَالا‏:‏ حَدّثَنَا سُفْيَانُ عنْ الزّهْرِيّ، عَنْ حميد بن عَبْدِ الرّحْمَنِ وَعَنْ محمّدِ بنِ النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ، يُحَدّثَانِ عَنِ النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ، أنّ أبَاهُ نَحَلَ ابْناً لَهُ غُلاَماً‏.‏ فَأَتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم يُشْهِدُهُ فقَالَ‏:‏ ‏"‏أكُلّ وَلَدَكَ قدْ نَحَلْتَهُ‏.‏ مِثْلَ ما نَحَلْتَ هَذَا‏؟‏‏"‏ قَالَ‏:‏ لاَ‏.‏ قال ‏"‏فَارْدُدْهُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِ عنِ النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ، والْعَمَلُ على هَذا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلمِ، يَسْتَحِبّونَ التّسْوِيَةَ بَيْنَ الْوَلَدِ، حَتّى قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ يُسَوّي بَيْنَ وَلَدِهِ حتّى في الْقُبْلَةِ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ يُسَوّي بَيْنَ وَلَدِهِ في النّحْلِ وَالْعَطِيّةِ ‏(‏يعني الذّكَرُ والأُنْثَى سَوَاءٌ‏)‏ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ‏.‏ وقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ التسْوِيَةُ بَيْنَ الولَدِ، أنْ يُعْطَى الذّكَرُ مِثْلَ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ، مِثْلَ قِسْمَةِ المِيرَاثِ، وَهُوَ قَوْلُ أحْمَدَ وإسْحَاقَ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن أباه نحل‏)‏ أي أعطى ووهب‏.‏ قال في النهاية‏:‏ النحل العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق ‏(‏ابنا له‏)‏ هو النعمان بن بشير نفسه‏.‏ ففي الصحيحين عن النعمان بن بشير أن أباه اتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت إبني هذا غلاماً‏.‏ ‏(‏غلاماً‏)‏ أي عبداً ‏(‏يشهده‏)‏ أي يجعله شاهداً ‏(‏فأردده‏)‏ أي أردد الغلام إليك‏.‏ وفي رواية للشيخين قال‏:‏ أعطيت سائر ولدك مثل هذا‏.‏ قال‏:‏ لا قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم‏.‏ قال فرجع فرد عطيته‏.‏ وفي رواية لهما‏:‏ أنه قال‏:‏ لا أشهد على جور‏.‏ وفي رواية لهما‏:‏ أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء‏.‏ قال‏:‏ بلى قال‏:‏ فلا إذاً‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه الشيخان وغيرهما‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يستحبون التسوية بين الولد حتى قال بعضهم‏:‏ يسوي بين الولد حتى في القبلة‏)‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ ذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة فإن فضل بعضاً صح وكره واستحبت المبادرة إلى التسوية أو الرجوع، فحملوا الأمر على الندب، والنهي على التنزيه‏.‏ قال وتمسك به يعني بحديث النعمان بن بشير من أوجب التسوية في عطية الأولاد‏.‏ وبه صرح البخاري‏.‏ وهو قول طاوس والثوري وأحمد وإسحاق‏.‏ وقال به بعض المالكية ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة‏.‏ وعن أحمد تصح‏.‏ ويجب أن يرجع‏.‏ وعنه يجوز التفاضل إن كان له سبب كأن يحتاج الولد لأمانته ودينه أو نحو ذلك دون الباقين‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإصرار‏.‏ قال ومن حجة من أوجبه أنه مقدمة الواجب، لأن قطع الرحم والعقوق محرمان‏.‏ فما يؤدي إليهما يكون محرماً‏.‏ والتفصيل بما يؤدي إليهما انتهى‏.‏ ‏(‏وقال بضهم يسوي بين ولده في النحل والعطية، الذكر والأنثى سواء‏.‏ وهو قول سفيان الثوري الخ‏)‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ اختلفوا في صفة التسوية، فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية، والمالكية‏:‏ العدل أن يعطي الذكر حظين كالميراث، واحتجوا بأنه حظها من ذلك المال لو أبقاه الواهب في يده حتى مات‏.‏ وقال غيرهم‏:‏ لا فرق بين الذكر والأنثى‏.‏ وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهم واستأنسوا بحديث ابن عباس رفعه‏:‏ سووا بين أولادكم في العطية‏.‏ فلوا كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء‏.‏ أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريقه‏.‏ وإسناده حسن انتهى‏.‏

925- باب ما جَاءَ في الشّفْعَة

‏(‏باب ما جاء في الشفعة‏)‏ بضم الشين المعجمة وسكون الفاء وغلط من حركها، وهي مأخوذة لغة من الشفع، وهو الزوج وقيل من الزيادة وقيل من الإعانة، وفي الشرع انتقال حصة شريك إلى شريك كانت انتقلت إلى أجنبي بمثل العرض المسمى‏.‏ قاله الحافظ في الفتح

1366- حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ‏.‏ حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بنُ عُلَيّةَ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، عنْ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏جَارُ الدّارِ أحَقّ بالدّارِ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وفي البابِ عَنِ الشّرِيدِ وَأبي رَافعٍ وَأَنَسٍ‏.‏

قال أبو عيسى حَدِيثُ سَمُرَةَ حديث حَسنٌ صحيحٌ‏.‏ ورَوَى عِيسَى بنُ يُونُسَ عَنْ سَعِيدِ بنِ أبي عَرُوبَةَ، عنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنَسٍ، عَنِ النّبي صلى الله عليه وسلم، مِثْلَهُ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وَالصّحِيحُ عِنْدَ أهْلِ العِلمِ، حَدِيثُ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ‏.‏ ولاَ نَعْرِفُ حَدِيثَ قَتَادَةَ عَنْ أنَسٍ، إلاّ مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بنِ يُونُسَ‏.‏ وَحَدِيثُ عَبْدِ الله بنِ عَبْدِ الرّحمَنِ الطّائفِيّ، عَنْ عَمْرِو بنِ الشّرِيدِ، عَنْ أبيهِ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، في هَذَا الْبَابِ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ‏.‏ وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بنِ الشّرِيدِ، عَنْ أبي رَافِعٍ، عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال سَمِعْتُ مُحَمّداً يَقُولُ‏:‏ كِلاَ الحَدِيثَيْنِ عِنْدِي صَحِيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جار الدار أحق بالدار‏)‏ استدل به القائلون بثبوت الشفعة للجار‏.‏ وأجاب عنه القائلون بعدم الشفعة بالجوار بأن المراد بالجار هو الشريك‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن الشريد‏)‏ بفتح الشين المعجمة وكسر الراء بن سويد، قال‏:‏ قلت يا رسول الله أرضي ليس لأحد فيها شرك، ولا قسم إلا الجوار‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏الجار أحق بسقبه ما كان‏"‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه‏.‏ ولابن ماجة مختصراً‏:‏ الشريك أحق بسقبه ما كان‏.‏ كذا في المنتقى ‏(‏وأبي رافع‏)‏ أخرجه البخاري مرفوعاً بلفظ‏:‏ الجار بسقبه‏.‏ وأخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه‏.‏ ‏(‏وأنس‏)‏ أخرجه النسائي مرفوعاً بلفظ‏:‏ جار الدار أحق بالدار‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏حديث سمرة حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏ قال المنذري‏:‏ اختلف الأئمة في سماع الحسن عن سمرة، والأكثر على أنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة انتهى‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وقد روى عيسى بن يونس عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله‏)‏ أخرجه النسائي ‏(‏وروى‏)‏ أي عيسى بن يونس ‏(‏عن سعيد بن أبي عروبة الخ‏)‏ أخرجه النسائي أيضاً ‏(‏ولا نعرف حديث قتادة عن أنس إلا من حديث عيسى بن يونس‏)‏ قال الدارقطني في سننه بعد روايته‏:‏ وهم فيه عيسى بن يونس وغيره يرويه عن قتادة عن الحسن عن سمرة هكذا رواه شعبة وغيره وهو الصواب انتهى‏.‏ قال ابن القطان عيسى بن يونس ثقة، ولا يبعد أن يكون جمع بين الروايتين أعني عن أنس وعن سمرة انتهى‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب هو حديث حسن‏)‏ أخرجه النسائي وابن ماجه من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن عمرو بن الشريد عن أبيه‏.‏ وقد ذكرنا لفظه فيما تقدم ‏(‏وروى ابراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أخرجه البخاري وغيره بلفظ‏:‏ الجار أحق بسقبه‏.‏ وفيه قصة ‏(‏سمعت محمداً يقول كلا الحديثين عندي صحيح‏)‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ يحتمل أن يكون سمعه من أبيه ومن أبي رافع انتهى‏.‏

926- باب ما جَاءَ في الشّفعَةِ لِلْغَائِب

1367- حدثنا قُتَيْبَةُ‏.‏ حَدّثَنَا خَالِدُ بنُ عَبْدُ الله الْوَاسِطيّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بنِ أبي سُلَيْمانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قالَ‏.‏ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الْجَارُ أحَقّ بِشُفْعَتِهِ‏.‏ يُنْتَظرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِباً، إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِداً‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ غَرِيبٌ‏.‏ وَلاَ نَعْلَمُ أحَداً رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرَ عَبْدِ الْمَلِكِ بنِ أبي سُليمانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ وقد تكلم شعبة في عبدالملك بن أبي سليمان من أجل هذا الحديث‏.‏

وَعَبْد الْمَلِكِ هُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ عِنْدَ أهْلِ الحَدِيثِ‏.‏ لاَ نَعْلَمُ أحَداً تَكَلّمَ فِيهِ غَيْرَ شُعْبَةَ، مِنْ أجْلِ هَذَا الْحَدِيث‏.‏ وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بنِ أبي سُليمانَ هَذَا الحَدِيثَ‏.‏ ورُوَي عَنْ ابن الْمُبَارَك‏.‏ عن سُفْيَانَ الثّوْرِيّ، قالَ‏:‏ عَبْدُ الْمَلِكِ بنُ أبي سُليمانَ مِيزَانٌ‏.‏ يَعْنِي في الْعِلْمِ‏.‏ وَالْعَمَلُ عَلى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أهْلِ الْعِلْمِ، أنّ الرّجُلَ أحَقّ بِشُفْعَتِهِ وَإِنْ كَانَ غَائباً‏.‏ فإذَا قَدِمَ فَلَهُ الشّفْعَةُ‏.‏ وَإِنْ تَطَاوَلَ ذَلِكَ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الجار أحق بشفعته‏)‏ أي بشفعة جاره كما في رواية أبي داود ‏(‏ينتظر‏)‏ بصيغة المجهول ‏(‏به‏)‏ أي بالجار، قال ابن رسلان‏:‏ يحتمل انتظار الصبي بالشفعة حتى يبلغ‏.‏ وقد أخرج الطبراني في الصغير والأوسط عن جابر أيضاً مرفوعاً‏:‏ الصبي على شفعته حتى يدرك، فإذا أدرك فإن شاء أخذ وإن شاء ترك‏.‏ وفي إسناده عبد الله بن بزيغ وكذا في النيل‏.‏ قلت قال الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الله بن بزيغ‏:‏ قال الدارقطني لين ليس بمتروك‏.‏ وقال ابن عدى ليس بحجة، وهو قاضي تستر، وعامة أحاديثه ليست بمتروكة انتهى‏.‏ ‏(‏وإن كان غائباً‏)‏ بالواو وإن وصلية‏.‏ قال الطيبي في شرح المشكاة بإثبات الواو في الترمذي وأبي داود وابن ماجه والدارمي وجامع الأصول وشرح السنة وبإسقاطها في نسخ المصابيح والأول أوجه ‏(‏إذا كان طريقهما‏)‏ أي طريق الجارين أو والدارين‏.‏ ‏(‏هذا حديث حسن غريب‏)‏ ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي قوله‏:‏ ‏(‏لا نعلم أحداً تكلم فيه غير شعبة من أجل هذا الحديث‏)‏ قال الذهبي في الميزان عبد الملك بن أبي سليمان أحد الثقات المشهورين تكلم فيه شعبة لتفرده عن عطاء بخبر الشفعة للجار‏.‏ قال وكيع‏:‏ سمعت شعبة يقول‏:‏ لو روى عبد الملك حديثاً آخر مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه‏.‏ وقال أبو قدامة السرخسي‏:‏ سمعت يحيى القطان يقول لو روى عبد الملك حديثاً آخر كحديث الشفعة لتركت حديثه وروى أحمد ابن أبي مريم عن يحيى ثقة‏.‏ وقال أحمد حديثه في الشفعة منكر وهو ثقة انتهى‏.‏ وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي‏:‏ وقال الإمام الشافعي يخاف أن لا يكون محفوظاً وأبو سلمة حافظ‏.‏ وكذلك أبو الزبير ولا يعارض حديثهما بحديث عبد الملك‏.‏ وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال‏:‏ هذا حديث منكر‏.‏ وقال يحيى لم يحدث به إلا عبد الملك‏.‏ وقد أنكره الناس عليه‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال لا أعلم أحداً رواه عن عطاء غير عبد الملك تفرد به‏.‏ ويروى عن جابر خلاف هذا‏.‏ هذا آخر كلامه وقد احتج مسلم في صحيحه بحديث عبد الملك، واستشهد به البخاري ولم يخرجا له هذا الحديث‏.‏ ويشبه أن يكون تركاه لتفرده به، وإنكار الأئمة عليه‏.‏ وجعله بعضهم رأياً لعبد الملك أدرجه عبد الملك في الحديث انتهى كلام المنذري‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏فإذا قدم فله الشفعة وإن تطاول ذلك‏)‏ وظاهر الحديث أنه لا يجب عليه السير متى بلغه للطلب أو البعث برسول كما قال مالك‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ إنه يجب عليه ذلك إذا كانت مسافة غيبته ثلاثة أيام فما دونها وإن كانت المسافة فوق ذلك لم يجب‏.‏

927- باب ما جَاءَ إذَا حُدّتِ الْحُدُودُ وَوَقَعَتِ السّهَامُ فَلاَ شُفْعَة

1368- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ‏.‏ أخبرنا عبدالرزاق أخبرنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ أبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرحمَنِ، عَنْ جَابِر بنِ عَبْدِ الله قالَ‏:‏ قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا وَقَعَتِ الْحدُودُ، وَصُرّفَتِ الطّرُقُ، فَلاَ شُفْعَةَ‏"‏‏.‏ قال أبو عيسى هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُرْسَلاً، عَنْ أبي سَلَمَةَ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ والْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ مِنْهُمْ عُمَرُ بنُ الخَطابِ وَعُثْمانُ بنُ عَفّانَ‏.‏ وبِهِ يَقُولُ بَعْضُ فُقَهَاءِ التّابِعِينَ‏.‏ مِثْلُ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيرِهِ‏.‏ وَهُوَ قَوْلُ أهْلِ الْمَدِينَةِ‏.‏ مِنْهُمْ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ الأنْصَارِيّ وَرَبِيعَةُ بنُ أبي عَبْدِ الرّحمَنِ وَمَالِكُ بنُ أنَسٍ‏.‏ وَبِهِ يَقُولُ الشّافِعِيّ وأحْمَدُ وإسْحَاقُ‏.‏ لاَ يَرَوْنَ الشّفْعَةُ إلاّ لِلْخَلِيطِ‏.‏ وَلاَ يَرَوْنَ لِلْجَارِ شُفْعَةً إذَا لَمْ يَكُنْ خَلِيطاً‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ أهْلِ العِلمِ‏.‏ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ‏:‏ الشفْعَةُ للْجَارِ‏.‏ واحْتَجّوا بالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏جَارُ الدّارِ أحَقّ بِالدّارِ‏"‏ وَقَالَ ‏"‏الجَارُ أحَقّ بِسَقَبِهِ‏"‏ وَهُوَ قَوْلُ الثوْرِيّ وابنِ المُبَارَكِ وَأَهْل الْكُوفَةِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا وقعت الحدود‏)‏ أي إذا قسم الملك المشتري، ووقعت الحدود أي الحواجز والنهايات‏.‏ قال ابن الملك‏:‏ أي عينت وظهر كل واحد منها بالقسمة والإفراز ‏(‏وصرفت‏)‏ بصيغة المجهول أي بينت ‏(‏الطرق‏)‏ بأن تعددت، وحصل لكل نصيب طريق مخصوص‏.‏ قال في النهاية‏:‏ صرفت الطرق أي بينت مصارفها وشوارعها كأنه من التصرف أو التصريف انتهى‏.‏ وقال ابن مالك معناه خلصت وبانت، وهو مشتق من الصرف بكسر المهملة، الخالص من كل شيء كذا في الفتح ‏(‏فلا شفعة‏)‏ استدل بهذا الحديث لمن قال‏:‏ إن الشفعة لا تثبت إلا بالخلطة لا بالجوار قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه أحمد البخاري قوله‏:‏ ‏(‏وبه يقول الشافعي وإسحاق‏:‏ لا يرون الشفعة إلا للخليط‏.‏ ولا يرون للجار شفعة إذا لم يكن خليطاً‏)‏ واستدلوا بحديث جابر المذكور، واستدلوا أيضاً بأن الشفعة ثبتت على خلاف الأصل لمعنى معدوم في الجار‏.‏ وهو أن الشريك ربما دخل عليه شريكه فتأذى به، فدعت الحاجة إلى مقاسمته فيدخل عليه الضرر بنقص قيمة ملكه، وهذا لا يوجد في المقسوم ‏(‏وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم‏:‏ الشفعة للجار‏)‏ وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ‏(‏واستدلوا بالحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ جار الدار أحق بالدار‏)‏ قد تقدم هذا الحديث في باب ما جاء في الشفعة ‏(‏وقال الجار أحق بسقبه‏)‏ بفتح السين المهملة والقاف ويجوز إسكانها وهو القرب والملاصقة‏.‏ أخرجه البخاري عن عمرو بن الشريد‏.‏ قال‏:‏ وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا سعد ابتع مني بيتي في دارك‏.‏ فقال سعد‏:‏ والله ما أبتاعهما فقال المسور‏:‏ والله لتبتاعنهما‏.‏ فقال سعد‏:‏ والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة‏.‏ قال أبو رافع‏:‏ لقد أعطيت بهما خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏الجار أحق بسقبه‏"‏ ما أعطيتكهما بأربعة آلاف، وإنما أعطى بهما خمسمائة دينار فأعطاه إياه‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ قال ابن بطال استدل بهذا الحديث أبو حنيفة وأصحابه على إثبات الشفعة للجار‏.‏ وأوله غيرهم على أن المراد به الشريك بناء على أن أبا رافع كان شريك سعد في البيتين، ولذلك دعاه إلى الشراء منه‏.‏ قال وأما قولهم‏:‏ إنه ليس في اللغة ما يقتضي تسمية الشريك جاراً فمردود فإن كل شيء قارب شيئاً قيل له جار، وقد قالوا لإمرأة الرجل جارة‏.‏ لما بينهما من الخالطة انتهى‏.‏ وتعقبه ابن المنير بأن ظاهر الحديث أن أبا رافع كان يملك بيتين من جملة دار سعد لا شقصاً شائعاً من منزل سعد وذكر عمر بن شبة أن سعداً كان اتخذ دارين بالبلاط متقابلتين بينهما عشرة أذرع، وكانت التي عن يمين المسجد منهما لأبي رافع، فاشتراها سعد منه‏.‏ ثم ساق حديث الباب فاقتضى كلامه أن سعداً كان جاراً لأبي رافع قبل أن يشتري منه داره لا شريكاً‏.‏ وقال بعض الحنفية‏:‏ يلزم الشافعية القائلين بحمل اللفظ على حقيقته ومجازه أن يقولوا بشفعة الجار لأن الجار حقيقة في المجاور، مجاز في الشريك‏.‏ وأجيب بأن محل ذلك عند التجرد، وقد قامت القرينة منا على المجاز فاعتبر للجمع بين حديثي جابر وأبي رافع‏.‏ فحديث جابر صريح في اختصاص الشفعة بالشريك، وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقاً، لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك‏.‏ والذين قالوا بشفعة الجار قدموا الشريك مطلقاً ثم المشارك في الطريق ثم الجار على من ليس بمجاور فعلى هذا فيتعين تأويل قوله ‏"‏أحق‏"‏ بالحمل على الفضل أو التعهد ونحو ذلك انتهى ما في الفتح‏.‏

928- باب ما جاء أن الشريك شفيع

1369- حدثنا يُوسفُ بنُ عيسَى‏.‏ حدّثنا الفَضْلُ بنُ مُوسَى‏.‏ عَنْ أبي حَمْزَةَ السّكّرِيّ، عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ، عنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، عنْ ابنِ عَبّاسٍ قالَ‏:‏ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏الشّرِيكُ شَفِيعٌ والشّفْعَةُ في كلّ شَيْءٍ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ لاَ نَعْرِفُهُ مِثْلَ هَذَا، إلاّ مِنْ حديثِ أبي حَمْزَةَ السّكّرِيّ‏.‏ وقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عنْ عبْدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ، عنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، مُرْسَلاً وهَذَا أصَحّ‏.‏

حدثنا هَنّادٌ‏.‏ حَدثنَا أبُو بَكْرٍ بنُ عَيّاشٍ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ، عنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحْوَهُ بِمَعْنَاهُ‏.‏ ولَيْسِ فيهِ ‏(‏عن ابن عَبّاس‏)‏ وهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عنْ عَبْدِ العَزيزِ بنِ رُفَيْعٍ، مِثْلَ هذَا‏.‏ لَيْسَ فيهِ ‏(‏عنِ ابنِ عَبّاس‏)‏ وهذَا أصَحّ مِنْ حدِيثِ أبي حَمْزَةَ، وأبو حَمْزَةَ ثِقَةٌ‏.‏ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الخَطَأُ مِنْ غَيْرِ أبي حَمْزَةَ‏.‏

حدثنا هَنّادٌ‏.‏ حدّثنَا أبُو الأحْوَصِ، عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ، عنِ ابنِ أبي مُلَيْكةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحْوَ حدِيثِ أبي بَكْرِ بنِ عَيّاشٍ‏.‏ وقالَ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ‏:‏ إنمَا تَكُونَ الشّفْعةُ في الدُور والأرَضِينَ‏.‏ وَلَمْ يَرَوُا الشّفْعَةَ في كلّ شيءٍ‏.‏ وقالَ بَعْضُ أهلِ العِلْمِ‏:‏ الشّفْعَةُ في كلّ شَيْءٍ‏.‏ والأوّلُ أصَحّ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي حمزة السكرى‏)‏ قال الخزرجي في الخلاصة‏:‏ سمي بذلك لحلاوة كلامه انتهى‏.‏ قال في القاموس السكر بالضم وتشديد الكاف معرب شكر‏.‏ وقال الحافظ ثقة فاضل ‏(‏عن عبد العزيز بن رفيع‏)‏ بضم الراء وفتح الفاء مصغراً عن ابن أبي مليكة بالتصغير هو عبيد الله بن أبي مليكة من مشاهير التابعين وعلمائهم وكان قاضياً على عهد ابن الزبير‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏والشفعة في كل شيء‏)‏ استدل به من قال بثبوت الشفعة في كل شيء مما يمكن نقله أو لا، لكن الحديث معلول بالإرسال‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا أصح‏)‏ أي كونه مرسلاً أصح‏.‏ قال الحافظ في الفتح روى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً‏:‏ الشفعة في كل شيء ورجاله ثقات، إلا أنه أعل بالإرسال‏.‏ وأخرج الطحاوي له شاهداً من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته انتهى‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وقال أكثر أهل العلم إنما تكون الشفعة في الدور والأرضين ولم يروا الشفعة في كل شيء‏)‏ واحتجوا بحديث جابر رضي الله عنه‏:‏ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط‏.‏ الحديث رواه مسلم‏.‏ قال القاري‏:‏ في هذا الحديث دلالة على أن الشفعة لا تثبت إلا فيما لا يمكن نقله كالأراضي والدور والبساتين، دون ما يمكن نقله كالأمتعة والدواب‏.‏ وهو قول عامة أهل العلم انتهى‏.‏ واحتجوا أيضاً بحديث سمرة المذكور في الباب وبحديث عبادة بن الصامت‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور‏.‏ رواه عبد الله بن أحمد في المسند، وهو من رواية إسحاق عن عبادة ولم يدركه‏.‏ ‏(‏وقال بعض أهل العلم الشفعة في كل شيء‏)‏ وبه قال مالك في رواية وهو قول عطاء‏.‏ وعن أحمد تثبت في الحيوانات دون غيرها من المنقولات كذا في الفتح، واحتج من قال بثبوت الشفعة في كل شيء بحديث ابن عباس المذكور في الباب، وقد عرفت أنه معلول بالإرسال‏.‏

929- باب ما جَاءَ في اللّقْطَةِ وَضَالّةِ الإبِل والْغَنَم

‏(‏باب ما جاء في اللقطة وضالة الإبل والغنم‏)‏ اللقطة الشيء يلتقط وهو بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين‏.‏ وقال عياض‏:‏ لا يجوز غيره‏.‏ وقال الزمخشري في الفائق‏:‏ اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها كذا قال وقد جزم الخليل بأنها بالسكون‏.‏ قال‏:‏ وأما بالفتح فهو اللاقط وقال الأزهري‏:‏ هذا الذي قاله هو القياس، ولكن الذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة والحديث الفتح‏.‏ كذا في الفتح والضال في الحيوان كاللقطة في غيره

1370- حدثنا قُتَيْبَةُ‏.‏ حدثنا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبي عَبْدِ الرّحمَنِ، عنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عنْ زَيْدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ أَنّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن اللّقَطَةِ‏؟‏ فقَالَ ‏"‏عَرّفْهَا سَنَةً ثمّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا‏.‏ ثمّ اسْتَنْفقْ بهَا‏.‏ فإنْ جَاءَ رَبّهَا فأَدّهَا إلَيْهِ‏"‏ فقَالَ له‏:‏ يَا رسولَ الله فَضَالّةُ الْغَنمِ‏؟‏ فقَالَ ‏"‏خُذْهَا‏.‏ فإنمَا هِيَ لَكَ أوْ لأِخِيكَ أَوْ لِلذّئْبِ‏"‏ فقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ الله فَضَالّةُ الإبلِ‏؟‏ قالَ، فَغضِبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم حَتّى احْمَرّتْ وَجْنَتَاهُ، أَوِ احْمَرّ وَجْهُهُ‏.‏ فقَالَ ‏"‏مَالَكَ وَلهَا‏؟‏ مَعَهَا حِذَاؤهَا وسِقَاؤُهَا حَتّى تَلْقَى رَبّهَا‏"‏‏.‏ حدِيثُ زَيْدِ بنِ خَالِدٍ حدِيثٌ حسنٌ صَحيحٌ‏.‏ وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وجْهٍ‏.‏ وحدِيثُ يَزيدَ مَوْلى الُمنْبعِثِ، عنْ زَيْدِ بنِ خَالِدٍ، حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وقَدْ رُويَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وجْهٍ‏.‏ والْعَمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النّبي صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهم، ورَخّصُوا في اللّقَطَةِ إِذَا عَرّفَهَا سَنَةً فَلمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، أَنْ يَنْتَفِعَ بِها، وهُوَ قَوْلُ الشّافِعيّ وأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ‏.‏ وقَالَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ‏:‏ يُعَرّفُهَا سَنَةً، فإنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وإلا تَصَدّقَ بِهَا‏.‏ وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وعَبْدِ الله بنِ المُبَارَكِ، وهُوَ قَوْلُ أهْلِ الكُوفةِ، لَمْ يَرَوْا لِصَاحِبِ اللّقَطَةِ أنْ يَنْتَفِعَ بِهَا إذَا كَانَ غَنِياً‏.‏ وقالَ الشّافِعيّ‏:‏ يَنْتَفِعَ بِهَا وإنْ كانَ غَنِياً، لأنّ أُبَي بنَ كَعْبٍ أصَابَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم صُرّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارِ، فأَمَرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَرّفَهَا ثُمّ يَنْتَفِعَ بهَا، وكانَ أُبي كَثِيرَ المَالِ، مِنْ مَيَاسِيرِ أصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَمَرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُعَرّفَهَا، فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، فأَمَرَهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَأْكُلَهَا، فَلوْ كانَتِ اللّقطةُ لَمْ تَحِلّ إلاّ لِمَنْ تَحِلّ لَهُ الصّدَقَةُ، لَمْ تَحِلّ لِعَليّ بنِ أبي طالِبٍ، لأَنّ عَلِيّ بنَ أبِي طَالِبٍ أصَابَ دِينَاراً عَلَى عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم فَعَرّفَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُه، فأَمَرَهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأَكْلِه، وكانَ لا يحِلّ لَهُ الصّدَقَةُ‏.‏

وقَدْ رَخّص بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، إذا كانَتِ الّلَقْطَةُ يَسِيرةً، أنْ يَنْتَفِعَ بهَا ولاَ يُعَرّفَهَا‏.‏ وقالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إذَا كانَ دُونَ دِينَارٍ يُعَرّفُهَا قَدْرَ جُمْعَةٍ، وهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ بنِ إبْرَاهِيمَ‏.‏

1371- حدثنا مُحَمّدٌ بن بَشّارٍ‏.‏ حدّثنَا أبُو بَكْرٍ الحَنَفِيّ أخبرنا الضّحّاكُ بنُ عُثْمانَ‏.‏ حدّثَني سَالِمٌ أبُو النّضْرِ عنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ، عنْ زَيْدِ ابنِ خَالِدٍ الجُهَنِيّ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عنِ الّلقَطَةِ فقَالَ ‏"‏عَرّفْهَا سَنَةً‏.‏ فإنِ اعْتُرِفَتْ، فَأَدّهَا‏.‏ وَإلاّ فَاعْرِفْ وِعَاءَها وَوِكَاءَهَا وعَدَدَهَا، ثمّ كُلْهَا فإنْ جاءَ صَاحِبُهَا فَأَدّهَا‏"‏‏.‏

وفي البابِ عنْ أُبَيّ بنِ كَعْبٍ وعَبْدِ الله بنِ عُمَرَو والْجَارُودِ بنِ المُعَلّى وعِيَاضِ بنِ حِمَارٍ وجَريرِ بنِ عَبْدِ الله قال أبو عيسى حديث زيد بن خالد حديثٌ حسنٌ غَريبٌ منْ هذَا الوَجْهِ‏.‏ وقَال أحْمَدُ‏:‏ أصَحّ شَيْءٍ في هذا البابِ هذَا الحَديثُ‏.‏ ‏(‏وقد رُوِيَ عنه من غير وجه‏)‏‏.‏

1372- حدثنا الحَسَنُ بنْ عَلِي الْخَلاّلُ‏.‏ حدّثنَا عَبْدُ الله بنُ نُمَيْرِ ويَزِيدُ بنُ هَارُونَ، عنْ سفْيَانَ، عنْ سَلمَةَ بنِ كُهَيْل، عنْ سُوَيْدِ بنِ غَفَلةَ، قالَ‏:‏ خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بنِ صُوحَانَ وسَلْمَانَ بنِ رَبِيعَةَ‏.‏ فَوَجَدْتُ سَوْطاً ‏(‏قالَ ابنُ نَميرٍ في حدِيثِهِ‏:‏ فَالتَقَطَتُ سَوْطاً فأَخَذْتُهُ‏)‏‏.‏ قَالاَ‏:‏ دَعْهُ‏.‏ فَقلت‏:‏ لاَ أَدَعُهُ تَأْكُلهُ السّبَاعُ، لاَخُذَنّهُ فَلأَسْتَمْتِعَنّ بِهِ‏.‏ فَقَدِمْتُ عَلَى أُبَيّ بنِ كَعْبٍ، فَسَأَلْتُهُ عنْ ذلِكَ، وحَدّثْتُهُ الْحَدِيثَ‏.‏ فقَالَ‏:‏ أحْسَنْتَ‏.‏ وجَدْتُ عَلَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صُرّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، قالَ، فأتَيْتُهُ بهَا‏.‏ فقَالَ لِي ‏"‏عَرّفْهَا حَوْلاً‏"‏ فَعَرّفْتُهَا حولاً فَما أجِدُ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمّ أتَيْتُهُ بهَا‏.‏ فقَالَ ‏"‏عَرّفْهَا حَوْلاً آخَرَ‏"‏ فَعَرّفْتُهَا ثمّ أتَيْتهُ بها‏.‏ فقَالَ ‏"‏عَرّفهَا حَوْلاً آخرَ‏"‏ وقال ‏"‏احْصِ عِدّتَهَا وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإنْ جَاءَ طَالِبُهَا فَأخْبَرَكَ بِعِدّتِهَا وَوِعَائهَا وَوِكَائِهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ، وإلاَ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا‏"‏قال هذا حديثٌ حسنٌ صَحيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سويد‏)‏ بالتصغير ‏(‏بن غفلة‏)‏ بفتح المعجمة والفاء أبو أمية الجعفي تابعي كبير مخضرم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وكان في زمنه رجلاً، وأعطى الصدقة في زمنه ولم يره على الصحيح، وقيل إنه صلى خلفه ولم يثبت، وإنما قدم المدينة حين نفضوا أيديهم من دفنه صلى الله عليه وسلم ثم شهد الفتوح ونزل الكوفة ومات بها سنة ثمانين أو بعدها ‏(‏قال خرجت‏)‏ أي في غزاة كما في رواية البخاري ‏(‏مع زيد بن صوحان‏)‏ بضم الصاد المهملة وسكون الواو وبعدها تابعي كبير مخضرم أيضاً ‏(‏وسلمان بن ربيعة‏)‏ هو الباهلي يقال له صحبة ويقال له سلمان الخيل لخبرته بها، وكان أميراً على بعض المغازي في فتوح العراق في عهد عمر وعثمان ‏(‏قالا‏)‏ أي زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة ‏(‏دعه‏)‏ وفي رواية البخاري ألقه ‏(‏تأكله السباع‏)‏ كأنه كان من الجلد أو مثله مما يأكله السباع ‏(‏لأخذته ولأستمتعن به‏)‏ وفي رواية البخاري‏:‏ ولكن إن وجدت صاحبه وإلا استمتعت به ‏(‏فقدمت على أبي بن كعب‏)‏ وفي رواية البخاري فلما رجعنا حججنا فمررت بالمدينة فسألت أبي بن كعب ‏(‏فقال أحسنت‏)‏ أي فيما فعلت ‏(‏وقال أحص‏)‏ أمر الإحصاء ‏(‏عدتها‏)‏ أي عددها ‏(‏ووعاءها‏)‏ الوعاء بكسر الواو والمد ما يجعل فيه الشيء سواء كان من جلد أو خزف أو خشب أو غير ذلك ‏(‏ووكاءها‏)‏ الوكاء بكسر الواو والمد الخيط الذي يشد به الصرة وغيرهما‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه أحمد ومسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أعرف وكاءها‏)‏ في النهاية الوكاء هو الخيط الذي تشد به الصرة والكيس ونحوهما‏.‏ ‏(‏ووعاءها‏)‏ تقدم معناه ‏(‏وعفاصها‏)‏ بكسر أوله أي وعاءها‏.‏ في الفائق العفاص الوعاء الذي يكون فيه اللقطة من جلد أو خرقة أو غير ذلك‏.‏ قال ابن عبد الملك‏:‏ وإنما أمر بمعرفتها ليعلم صدق وكذب من يدعيها‏.‏ في شرح السنة اختلفوا في تأويل قوله‏:‏ اعرف عفاصها في أنه لو جاء رجل وادعى اللقطة وعرف عفاصها ووكاءها، هل يجب الدفع إليه‏؟‏ فذهب مالك وأحمد إلا أنه يجب الدفع إليه من غير بينة، إذ هو المقصود من معرفة العفاص والوكاء‏.‏ وقال الشافعي وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله‏:‏ إذا عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن ووقع في نفسه أنه صادق فله أن يعطيه، وإلا فببينة‏.‏ لأنه قد يصيب في الصفة بأن يسمع الملتقط بصفها، فعلى هذا تأويل قوله‏:‏ اعرف عفاصها ووكاءها لئلا تختلط بماله اختلاطاً لا يمكنه التمييز إذا جاء مالكها‏.‏ انتهى ما في المرقاة‏.‏ قلت قد وقع في حديث أبي بن كعب عند مسلم وغيره‏:‏ فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ وقد أخذ بظاهر هذه الزيادة مالك وأحمد‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ إن وقع في نفسه صدقة جاز أن يدفع إليه ولا يجبر على ذلك إلا ببينة لأنه قد يصيب الصفة‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ إن صحت هذه اللقطة لم يجز مخالفتها وهي فائدة‏.‏ قوله اعرف عفاصها الخ‏.‏ وإلا فالاحتياط مع من لم ير الرد إلا بالبينة قال ويتأول قوله‏:‏ اعرف عفاصها‏.‏ على أنه أمره بذلك لئلا تختلط بماله أو لتكون الدعوى فيها معلومة‏.‏

قال الحافظ‏:‏ قد صحت هذه الزيادة فتعين المصير إليها انتهى‏.‏ قلت‏:‏ قد ذكر وجه صحة هذه الزيادة في الفتح، من شاء الوقوف على ذلك فليرجع إليه‏.‏ ‏(‏فإن جاء ربها‏)‏ أي مالك اللقطة ‏(‏فأدها إليه‏)‏ فيه دليل على بقاء ملك مالك اللقطة خلافاً لمن أباحها بعد الحول بلا ضمان ‏(‏فضالة الغنم‏)‏ بتشديد اللام أي غاويتها أو متروكتها مبتدأ خبره محذوف أي ما حكمها ‏(‏هي لك‏)‏ أي إن أخذتها وعرفتها ولم تجد صاحبها فإن لك أن تملكها ‏(‏أو لأخيك‏)‏ يريد به صاحبها‏.‏ والمعنى‏:‏ إن أخذتها فظهر مالكها فهو له أو تركتها فاتفق أن صادفهافهو أيضاً له‏.‏ وقيل معناه‏:‏ إن لم تلتقطها يلتقطها غيرك ‏(‏أو للذئب‏)‏ بالهمزة وإبداله‏.‏ أي إن تركت أخذها الذئب وفيه تحريض على التقاطها‏.‏ قال الطيبي‏:‏ أي تركتها ولم يتفق أن يأخذها غيرك يأكله الذئب غالباً‏.‏ بذلك على جواز التقاطها وتملكها وعلى ما هو العلة لها، وهي كونها معرضة للضياع ليدل على اطراد هذا الحكم في كل حيوان يعجز عن الرعي بغير راع ‏(‏احمرت وجنتاه‏)‏ أي خداه ‏(‏أو احمر وجهه‏)‏ شك من الراوي ‏(‏مالك ولها‏)‏ أي شيء لك ولها‏.‏ قيل ما شأنك معها أي اتركها ولا تأخذها ‏"‏معها حذاؤها وسقاؤها‏"‏ الحذاء بالمد النعل والسقاء بالكسر القربة والمراد هنا بطنها وكروشها، فإن فيه رطوبة يكفي أياماً كثيرة من الشرب‏.‏ فإن الإبل قد يتحمل من الظماء ما لا يتحمله سواء من البهائم، ثم أراد أنها تقوى على المشي وقطع الأرض وعلى قصد المياه وورودها ورعي الشجر والامتناع عن السباع المفترسة‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن أبي بن كعب وعبد الله بن عمر‏)‏ في حاشية النسخة الأحمدية كذا في أكثر النسخ وفي نسخة صحيحة عبد الله بن عمرو بالواو، وعليه يدل بعض القرائن انتهى‏.‏ قلت‏:‏ الأمر كما في هذه الحاشية ‏(‏والجارود بن المعلى وعياض بن حمار وجرير بن عبد الله‏)‏ أما حديث أبي بن كعب فأخرجه أحمد ومسلم‏.‏ وأما حديث عبد الله بن عمر بغير الواو على ما في أكثر النسخ فلم أقف عليه‏.‏ وأما حديث عبد الله بن عمرو بالواو فأخرجه النسائي وأبو داود‏.‏ وأما حديث الجارود فأخرجه الدارمي عنه‏.‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ضالة المسلم حرق النار‏"‏‏.‏ وأما حديث عياض بن حمار فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة‏.‏ وأما حديث جرير بن عبد الله فأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة مرفوعاً بلفظ‏:‏ لا يأوي الضالة إلا ضال‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏حديث زيد بن خالد حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه الشيخان ‏(‏وحديث يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد حديث حسن صحيح وقد روى عنه من غير وجه‏)‏ الظاهر أن هذا تكرار‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏رخصوا في اللقطة إذا عرفها سنة فلم يجد من يعرفها أن ينتفع بها‏.‏ وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق‏)‏ واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وإلا فاستمتع بها وما في معناه‏"‏‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ قوله وإلا فاستنفقها، استدل به على أن الملتقط يتصرف فيها سواء كان غنياً أم فقيراً‏.‏ وعن أبي حنيفة إن كان غنياً تصدق بها، وإن صاحبها تخير بين إمضاء الصدقة أو تغريمه‏.‏ قال صاحب الهداية‏:‏ إلا إن كان يأذن الإمام فيجوز للغني كما في قصة أبي بن كعب‏.‏ وبهذا قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين‏.‏

‏(‏وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم‏:‏ بعرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها وهو قول سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وهو قول أهل الكوفة‏)‏ استدل لهم بحديث عياض بن حمار وفيه‏:‏ وإن لم يجئ صاحبها فهو مال الله يؤتيه من يشاء‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه‏.‏ قال الشوكاني‏:‏ استدل به من قال إن الملتقط يملك اللقطة بعد أن يعرف بها حولاً‏.‏ وهو أبو حنيفة، لكن بشرط أن يكون فقيراً وبه قالت الهادوية‏.‏ واستدلوا على اشتراط الفقر بقوله في هذا الحديث‏:‏ فهو مال الله‏.‏ قالوا وما يضاف إلى الله إنما يتملكه من يستحق الصدقة‏.‏ وذهب الجمهور إلى أنه يجوز له أن يصرفها في نفسه بعد التعريف سواء كان غنياً أو فقيراً لإطلاق الأدلة الشاملة للغني والفقير كقوله‏:‏ فاستمتع بها، وفي لفظ‏:‏ فهي كسبيل مالك‏.‏ وفي لفظ‏:‏ فاستنفقها‏.‏ وفي لفظ‏:‏ فهي لك‏.‏ وأجابوا عن دعوى أن الإضافة ‏(‏يعني إضافة المال إن الله في قوله‏:‏ فهو مال الله‏)‏ تدل على الصرف إلى الفقير بأن ذلك لا دليل عليه‏:‏ فإن الأشياه كلها تضاف إلى الله‏.‏ قال الله تعالى ‏{‏وآتوهم من مال الله الذي أتاكم‏}‏ انتهى‏.‏ ‏(‏وقال الشافعي‏:‏ ينتفع بها وإن كان غنياً‏)‏ وهو قول الجمهور كما عرفت ‏(‏لأن أبي بن كعب أصاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صره فيها مائة دينار فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها ثم ينتفع بها‏.‏ وكان أبي كثير المال من مياسير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الخ‏)‏ أخرج حديث أبي بن كعب هذا الترمذي في هذا الباب، وأخرجه أيضاً أحمد ومسلم‏.‏ ومياسير جمع موسر قال في القاموس‏:‏ اليسر بالضم وبضمتين واليسار والمسارة والميسرة مثلثة السين السهولة والغني وأيسر أيساراً ويسرى صار ذا غني فهو موسر جمعه مياسير انتهى‏.‏ وقول الشافعي‏:‏ وكان أبي كثير المال قد اعترض عليه بحديث أبي طلحة الذي في الصحيحين حيث استشار النبي صلى الله عليه وسلم في صدقته فقال اجعلها في فقراء أهلك‏.‏ فجعلها أبو طلحة في أبي بن كعب وحسان وغيرهما‏.‏ والجواب عنه أن ذلك في أول الحال‏.‏ وقول الشافعي بعد ذلك حين فتحت الفتوح كذا في التلخيص ‏(‏فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلها‏)‏ وهذا دليل على أنه يجوز للغني أن ينتفع باللقطة‏.‏ وأجاب من قال بعدم جوازه بأنه إنما جاز لأبي بن كعب الانتفاع بها لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان أذن له بالانتفاع بها وإذا يأذن الإمام يجوز للغني الانتفاع باللقطة‏.‏ قلت‏:‏ هذا الجواب إنما يتمشى إذا ثبت عدم جواز الانتفاع باللقطة للغني بدليل صحيح ‏(‏فلو كانت اللقطة لم تحل إلا لمن تحل له الصدقة لم تحل لعلي بن أبي طالب لأن على بن أبي طالب أصاب ديناراً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه فلم يجد من يعرفه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكله‏)‏ يأتي تخريج حديث علي هذا عن قريب‏.‏ ‏(‏وكان علي لا تحل له الصدقة‏)‏ وهذا أيضاً دليل على جواز الانتفاع باللقطة للغني‏.‏ ‏(‏وقد رخص بعض أهل العلم إذا كانت اللقطة يسيرة أن ينتفع بها ولا يعرفها الخ‏)‏ أخرج أحمد وأبو داود عن جابر قال رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به‏.‏ وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها‏.‏ أخرجه الشيخان‏.‏ قال صاحب المنتقى فيه إباحة المحقرات في الحال انتهى‏.‏ قال الشوكاني‏:‏ حديث جابر في إسناده المغيرة بن زياد، قال المنذري‏:‏ تكلم فيه غير واحد‏.‏ وفي التقريب صدوق له أوهام وفي الخلاصة‏:‏ وثقة وكيع وابن معين وابن عدي وغيرهم‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ شيخ لا يحتج به‏.‏ وقوله وأشباهه يعني كل شيء يسير‏.‏ وقوله ينتفع به‏.‏ فيه دليل على جواز الانتفاع بما يوجد في الطرقات من المحقرات ولا يحتاج إلى تعريف، وقيل أنه يجب التعريف بها ثلاثة أيام‏.‏ لما أخرجه أحمد والطبراني والبيهقي والجوزجاني، واللفظ لأحمد من حديث يعلى بن مرة مرفوعاً‏:‏ من التقط لقطة يسيرة حبلاً أو درهما أو شبه ذلك فليعرفها ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك فليعرفه سنة أيام‏.‏ زاد الطبراني‏:‏ فإن جاء صاحبها وإلا فليتصدق بها، وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى، وقد صرح جماعة بضعفه ولكنه قد أخرج له ابن خزيمة متابعة‏.‏ وروى عن جماعة، وزعم ابن حزم أنه مجهول، وزعم هو وابن القطان أن يعلى وحكيمة التي روت هذا الحديث عن يعلى مجهولان‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهو عجب منهما، لأن يعلى صحابي معروف الصحبة- قال ابن رسلان‏:‏ ينبغي أن يكون هذا الحديث معمولاً به لأن رجال إسناده ثقات، وليس فيه معارضة للأحاديث الصحيحة بتعريف سنة لأن التعريف سنة هو الأصل المحكوم به عزيمة، وتعريف الثلاث رخصة تيسيراً للملتقط لأن الملتقط اليسير يشق عليه التعريف سنة مشقة عظيمة بحيث يؤدي إلى أن أحداً لا يلتقط اليسير، والرخصة لا تعارض العظيمة بل لا تكون إلا مع بقاء حكم الأصل كما هو مقرر في الأصول‏.‏

ويؤيد تعريف الثلاث ما رواه عبد الرزاق عن أبي سعيد أن علياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وجده في السوق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ عرفه ثلاثاً‏.‏ ففعل فلم يجد أحداً يعرفه فقال‏:‏ كله‏.‏ انتهى‏.‏ وينبغي أيضاً أن يقيد مطلق الانتفاع المذكور في حديث الباب بالتعريف بالثلاث المذكورة فلا يجوز للملتقط أن ينتفع بالحقير إلا بعد التعريف به ثلاثاً حملاً للمطلق على المقيد وهذا إذا لم يكن ذلك الشيء الحقير مأكولاً، فإن كان مأكولاً جاز أكله ولم يجب التعريف به أصلاً كالتمرة ونحوها لحديث أنس المذكورة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أنه لم يمنعه من أكل التمرة إلا خشية أن تكون من الصدقة‏.‏ ولولا ذلك لأكلها وقد روى ابن أبي شيبة عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها وجدت تمرة فأكلتها وقالت‏:‏ لا يحب الله الفساد‏.‏ قال في الفتح يعني أنها لو تركتها فلو تؤخذ فتؤكل لفسدت‏.‏ قال وجواز الأكل هو المجزوم به عند الأكثر انتهى‏.‏ ويمكن أن يقال أنه يقيد حديث التمرة بحديث التعريف ثلاثاً كما قيد به حديث الانتفاع، ولكنها لم تجر للمسلمين عادة بمثل ذلك‏.‏ وأيضاً الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم لأكلتها أي في الحال‏.‏ ويبعد كل البعد أن يريد صلى الله عليه وسلم لأكلتها بعد التعريف بها ثلاثاً‏.‏ وقد اختلف أهل العلم في مقدار التعريف بالحقير فحكى في البحر عن زيد بن علي والناصر والقاسمية والشافعي أنه يعرف به سنة كالكثير وحكى عن المؤيد بالله والإمام يحيى وأصحاب أبي حنيفة أنه يعرف به ثلاثة أيام‏.‏ واحتج الأولون بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عرفها سنة‏"‏‏.‏ قالوا ولم يفصل‏.‏ واحتج الاَخرون بحديث يعلى بن مرة وحديث علي وجعلوهما مخصصين لعموم حديث التعريف سنة، وهو الصواب لما سلف‏.‏ قال الإمام المهدي‏:‏ قلت الأقوى تخصيصه بما مر للحرج انتهى يعني تخصيص حديث السنة بحديث التعريف ثلاثاً انتهى كلام الشوكاني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن بسر‏)‏ بضم الموحدة وسكون السين المهملة ‏(‏ابن سعيد‏)‏ المدني العابد مولى ابن الحضرمي ثقة جليل من الثانية ‏(‏فإن اعترفت‏)‏ بصيغة المجهول أي اللقطة ‏(‏فأدها‏)‏ أي أد إلى ربها المعترف ‏(‏ثم كلها‏)‏ أي بعد التعريف إلى سنة وفيه أنه يجوز للملتقط أن يأكل اللقطة ويتصرف فيها وإن كان غنياً لإطلاقا الحديث ولا يجب عليه أن يتصدقها‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح الخ‏)‏ وأخرجه الشيخان ‏(‏والعمل على هذا عند بعض أهل العلم الخ‏)‏ قد تقدمت هذه العبارة بعينها فهي مكررة وليس في تكرارها فائدة‏.‏

930- باب في الوَقف

1373- حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أنبأنا إسْمَاعيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ أَصَابَ عُمَرُ أَرْضاً بِخَيبرَ فَقَالَ‏:‏ يا رسولَ الله أصبْتُ مَالاً بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطّ أنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ‏.‏ فَمَا تَأْمُرنِي‏؟‏ قَالَ ‏"‏إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وتَصَدّقْت بِهَا‏"‏ فَتَصَدّقَ بِهَا عُمَرُ، أنّهَا لاَ يُبَاعُ أصْلُهَا وَلا يُوهَب ولاَ يُورَثُ‏.‏ تَصَدّقَ بهَا في الفُقَرَاءِ والقُرْبَى وَفي الرّقَابِ وَفي سَبيلِ الله، وابنِ السّبِيلِ، والضّيْفِ‏.‏ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيها أَنْ يأْكُلَ مِنْهَا بِالمَعْرُوفِ، أوْ يُطْعِمَ صَدِيقاً، غَيْرَ مُتَمَوّلٍ فِيهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَذَكَرْتُهُ لِمحَمّدِ بنِ سيرينَ فَقَالَ ‏(‏غَيْرَ مُتأَثّلٍ مَالا‏)‏‏.‏

قَالَ‏:‏ ابنُ عَوْن‏:‏ فَحَدّثَني بِهِ رَجُلٌ آخَرُ أنّهُ قَرَأَهَا في قِطْعَةِ أَدِيم أحْمَرَ ‏(‏غَيْرَ مُتَأَثّلٍ مَالاً‏)‏‏.‏

قالَ إسْمَاعِيلُ‏:‏ وَأنا قَرَأْتُهَا عِنْدَ ابنِ عُبيدِ الله بنِ عُمَرَ، فَكانَ فيهِ ‏(‏غَيْرَ مُتَأَثّلٍ مالاً‏)‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ والعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ‏.‏ لاَ نَعْلَمُ بَيْنَ المُتقَدّمِينَ مِنْهُمْ في ذَلِكَ، اخْتِلاَفاً في إجَازَةِ وَقْفِ الأرضِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

1374- حدثنا عَليّ بنُ حُجْرٍ‏.‏ أخبرنا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ، عنِ العَلاَءِ بنِ عَبْدِ الرّحْمَن، عنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عَنْهُ أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏إذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَملُه إلاّ مِنْ ثَلاَثٍ‏:‏ صَدَقَةٌ جَارِيةٌ‏.‏ وَعِلْمٌ يُنْتَفِعُ بِهِ‏.‏ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يدْعُو لَهُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصاب عمر‏)‏ أي صادف في نصيبه من الغنيمة ‏(‏أرضاً بخيبر‏)‏ هي المسماة بثمغ كما في رواية البخاري، وأحمد وثمغ بفتح المثلثة والميم وقيل بسكون الميم وبعدها عين معجمة ‏(‏لم أصب مالاً قط‏)‏ أي قبل هذا أبداً ‏(‏أنفس‏)‏ أي أعز واجود، والنفيس الجيد المغتبط به يقال نفس بفتح النون وضم الفاء نفاسة ‏(‏فما تأمرني‏)‏ أي فيه فإني أردت أن أتصدق به وأجعله لله، ولا أدري بأي طريق أجعله له‏.‏ ‏(‏حبست‏)‏ بتشديد الموحدة ويخفف أي وقفت ‏(‏وتصدقت بها‏)‏ أي بمنفعتها وبين ذلك ما في رواية عبيد الله بن عمر‏:‏ أحبس أصلها وسبل ثمرتها‏.‏ وفي رواية يحيى بن سعيد تصدق بثمره وحبس أصله قاله الحافظ ‏(‏فتصدق بها عمر أنها لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث‏)‏ فيه أن الشرط من كلام عمر‏.‏ وفي رواية للبخاري فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره‏"‏ فتصدق به عمر الخ‏.‏ وهذه الرواية تدل على أن الشرط من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا منافاة لأنه يمكن الجمع بأن عمر شرط ذلك الشرط بعد أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم به فمن الرواة من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من وقف على عمر لوقوعه منه امتثالاً للأمر الواقع منه صلى الله عليه وسلم به ‏(‏تصدق بها في الفقراء‏)‏ وفي المشكاة وتصدق بها الخ بزيادة الواو ‏(‏والقربى‏)‏ تأنيث الأقرب كذا قيل‏.‏ والأظهر أنه بمعنى القرابة والمضاف مقدر ويؤيده قوله تعالى ‏{‏وآت ذا القربى‏}‏ قال القاري‏.‏ وقال الحافظ يحتمل أن يكون هم من ذكر في الخمس ويحتمل أن يكون المراد بهم قربى الواقف، وبهذا الثاني جزم القرطبي ‏(‏وفي الرقاب‏)‏ بكسر الراء جمع رقبة وهم المكاتبون أي في أداء ديونهم ويحتمل أن يريد أن يشتري به الأرقاء وبعتقهم ‏(‏وفي سبيل الله‏)‏ أي منقطع الغزاة أو الحاج قاله القاري‏.‏ ‏(‏وابن السبيل‏)‏ أي ملازمته وهو المسافر ‏(‏والضيف‏)‏ هو من نزل بقوم يريد القرى ‏(‏لا جناح‏)‏ أي لا إثم ‏(‏على من وليها‏)‏ أي قام بحفظها وإصلاحها ‏(‏أن يأكل منها بالمعروف‏)‏ بأن يأخذ منها قدر ما يحتاج إليه قوتاً وكسوة ‏(‏أو يطعم‏)‏ من الإطعام ‏(‏غير متمول فيه‏)‏ أي مدخر حال من فاعل وليها ‏(‏قال فذكرتها لابن سيرين‏)‏ القائل هو ابن عون‏.‏ ووقع في رواية للبخاري فحدثت به ابن سيرين قال الحافظ في الفتح‏:‏ القائل هو ابن عون‏.‏ بين ذلك الدارقطني من طريق أبي أسامة عن ابن عون قال‏:‏ ذكرت حديث نافع لابن سيرين فذكره انتهى‏.‏ ‏(‏فقال غير متأثل مالاً‏)‏ أي غير مجمع لنفسه منه رأس مال‏.‏ قال ابن الأثير أي غير جامع يقال مال مؤثل ومجد مؤثل أي مجموع ذو أصل وأثلة الشيء أصله انتهى‏.‏ وقال الحافظ التأثل أصل المال حتى كأنه عنده قديم، وأثلة كل شيء أصله‏.‏ ‏(‏قال ابن عون فحدثني به رجل آخر الخ‏)‏ وقع في النسخة المطبوعة الأحمدية ابن عوف بالفاء وهو غلط ‏(‏في قطعة أديم أحمر‏)‏ قال في القاموس‏:‏ الأديم الجلد أو أحمره أو مدبوغه‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا نعلم بين المتقدمين منهم في ذلك اختلافاً في إجازة وقف الأرضين وغير ذلك‏)‏ وجاء عن شريح أنه أنكر الحبس ومنهم من تأوله‏.‏ وقال أبو حنيفة لا يلزم وخالفه جميع أصحابه إلا زفر بن الهذيل، فحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان قال كان أبو يوسف يجيز بيع الوقف، فبلغه حديث عمر هذا فقال من سمع هذا من ابن عون فحدثه به أبن عليه فقال هذا لا يسع أحداً خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به‏.‏ فرجع عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد انتهى كذا في الفتح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏انقطع عن عمله‏)‏ أي أعماله بدليل الاستثناء والمراد فائدة عمله لانقطاع عمله يعني لا يصل إليه أجر وثواب من شيء من عمله ‏(‏إلا من ثلاث‏)‏ فإن أجرها لا ينقطع ‏(‏صدقة جارية‏)‏ بالجر بدل من ثلاث قال في الأزهار هي الوقف وشبهه مما يدوم نفعه ‏(‏وعلم ينتفع به‏)‏ أي بعد موته ‏(‏وولد صالح يدعو له‏)‏ قال ابن الملك قيد الولد بالصالح لأن الأجر لا يحصل من غيره وإنما ذكر دعاءه تحريضاً للولد على الدعاء لأبيه‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه مسلم‏.‏

931- باب مَا جَاء في العَجْمَاءِ جُرْحهَا جُبار

1375- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ‏.‏ حدّثنَا سُفْيَانُ عنِ الزّهْرِيّ، عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ‏:‏ قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏العَجْمَاءُ جرْحُهَا جُبَارٌ‏:‏ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ‏.‏ والمَعْدِنُ جُبَارٌ‏.‏ وفِي الرّكَازِ الخُمْسُ‏"‏‏.‏

حدثنا قُتَيْبَةُ‏.‏ حدّثنَا الليْثُ عنِ ابنِ شِهَاب عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ وأبي سَلَمَةَ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحْوَهُ‏.‏

قالَ‏:‏ وفي البابِ عن جَابرٍ، وَ عَمْرو بنِ عون بن عَوْفٍ المُزَنِيّ، و عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ‏.‏

قال أبو عيسى حدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

حدثنا الأنصاريّ عن مَعْنٍ قالَ‏:‏ أخبرنا مَالِكُ بنُ أَنَسٍ‏:‏ وتَفْسيرُ حدِيثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏(‏العَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبارٌ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ هَدَرٌ لاَدِيَةَ فِيهِ‏.‏

قال أبو عيسى ومَعْنَى قَوْلِهِ ‏(‏العَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ‏)‏ فَسّرَ ذَلِكَ بَعْضُ أهلِ العِلْمِ قَالُوا‏:‏ الْعَجْمَاءُ الدّابّةُ المُنْفَلِتَةُ مِنْ صَاحِبَها‏.‏ فَمَا أصَابَتْ في انْفِلاَتِهَا فَلاَ غُرْمَ عَلَى صَاحِبهَا‏.‏ ‏(‏والمَعْدِنُ جُبارٌ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ إذَا احْتَفَرَ الرّجُلُ مَعْدِناً فَوقَعَ فِيهَا إِنْسَانٌ فَلاَ غُرْمَ عَلَيْهِ‏.‏ وكَذلِكَ الْبِئْرُ إذَا احْتَفَرَهَا الرّجُلُ لِلسّبِيلِ، فَوَقَعَ فيهَا إنْسَانٌ فَلاَ غُرْمَ عَلَى صَاحِبها‏.‏ ‏(‏وفِي الرّكَازِ الْخُمسُ‏)‏ والرّكَازُ‏:‏ مَا وُجِدَ في دَفْنِ أهْلِ الْجَاهِلِيّةِ‏.‏ فَمَنْ وَجَدَ رِكَازاً أدّى مِنْهُ الْخُمسَ إلى السّلْطَانِ‏.‏ ومَا بَقِيَ فَهُوَ لَهُ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏العجماء‏)‏ بفتح العين ممدوداً سميت عجماء لأنها لا تتكلم ‏(‏جرحها‏)‏ بضم الجيم وفتحها فبالفتح مصدر وبالضم الاسم ‏(‏جبار‏)‏ بضم الجيم وتخفيف الموحدة أي هدر لا شيء فيه ‏(‏والبئر‏)‏ بالهمزة ويبدل ‏(‏جبار‏)‏ فمن حفر بيراً في ارضه أو في أرض المباح وسقط فيه رجل لا قود ولا عقل على الحافر، وكذلك المعدن قاله القاري‏.‏ ‏(‏والمعدن جبار‏)‏ ليس المراد أنه لا زكاة فيه وإنما المعنى أن من استأجر للعمل في معدن مثلاً فهلك فهو هدر ولا شيء على من استأجره‏.‏ ‏(‏وفي الركاز الخمس‏)‏ الركاز بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي المال المدفون مأخوذ من الركز بفتح الراء يقال ركزه يركزه ركزاً إذا دفنه فهو مركوز قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن جابر وعمرو بن عوف المزني وعبادة بن الصامت‏)‏ لينظر من أخرج أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم ‏(‏حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح‏)‏ أخرجه الجماعة‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏فالركاز ما وجد من دفن الجاهلية‏)‏ بكسر الدال المهملة وسكون الفاء بمعنى المدفون كالذبح بمعنى المذبوح‏.‏ وأما بالفتح فهو المصدر ولا يراد هنا ‏(‏فمن وجد ركازاً أدى منه الخمس‏)‏ قال البخاري في صحيحه قال مالك وابن إدريس الركاز دفن الجاهلية في قليله وكثيره الخمس، وليس المعدن بركاز‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏في المعدن جبار وفي الركاز الخمس‏"‏ انتهى‏.‏

قال الحافظ‏:‏ قوله في قليله وكثيره الخمس فهو قوله في القديم كما نقله ابن المنذر واختاره‏.‏ وأما في الجديد فقال لا يجب فيه الخمس حتى يبلغ نصاب الزكاة الأول قول الجمهور وهي مقتضى ظاهر الحديث قوله‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏في المعدن جبار وفي الركاز الخمس أي فغاير بينهما‏"‏ انتهى‏.‏ قال البخاري‏:‏ وقال بعض الناس المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية لأنه يقال الركز المعدن إذا أخرج منه شيء، قيل له‏:‏ فقد يقال لمن وهب له الشيء وربح ربحاً كثيراً وكثر تمره‏:‏ أركزت ثم ناقضه وقال لا بأس أنه يكتمه ولا يؤدي الخمس انتهى‏.‏

قال الحافظ‏:‏ قوله‏:‏ وقال بعض الناس إلخ قال ابن التين المراد ببعض الناس أبو حنيفة قال الحافظ‏:‏ ويحتمل أن يريد به أبا حينفة وغيره من الكوفيين ممن قال بذلك‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ ذهب أبو حنيفة والثوري وغيرهما إلى أن المعدن كالركاز واحتج لهم بقول العرب أركز الرجل إذا أصاب ركازاً وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن‏.‏ والحجة للجمهور تفرقة النبي صلى الله عليه وسلم بين المعدن والركاز بواو العطف‏.‏ فصح أنه غيره وقال وما ألزم به البخاري القائل المذكور قد يقال لمن وهب له الشيء أو ربح ربحاً كثيراً أو كثر ثمره أركزت حجة بالغة، لأنه لا يلزم من الاشتراك في الأسماء لاشتراك في المعنى إلا إن أوجب لك من يجب التسليم له وقد أجمعوا على أن المال الموهوب لا يجب فيه الخمس وإن كان يقال له أركز فكذلك المعدن‏.‏ وأما قوله ثم ناقض الخ فليس كما قال وإنما أجاز له أبو حنيفة أن يكتمه إذا كان محتاجاً بمعنى أنه يتأول أن له حقاً في بيت المال ونصيباً في الفيء فأجاز له أن يأخذ الخمس لنفسه عوضاً عن ذلك لأنه أسقط الخمس عن المعدن انتهى‏.‏ وقد نقل الطحاوي المسألة التي ذكرها ابن بطال ونقل أيضاً أنه لو وجد في داره معدناً فليس عليه شيء‏.‏ وبهذا يتجه اعتراض البخاري‏.‏ والفرق بين المعدن والركاز في الوجوب وعدمه أن المعدن يحتاج إلى عمل ومؤنة ومعالجة لاستخراجه بخلاف الركاز وقد جرت عادة الشرع أن ما غلظت مؤنته خفف عنه في قدر الزكاة، وما خففت زيد فيه‏.‏ وقيل إنما جعل في الركاز الخمس لأنه مال كافر فنزل من وجده منزلة الغنائم فكان له أربعة أخماسه انتهى‏.‏

932- باب مَا ذُكِرَ في إحْيَاءِ أَرْضِ المَوَات

‏(‏باب ما ذكر في إحياء أرض الموات‏)‏ بفتح الميم قال في النهاية الموات الأرض التي لم تزرع ولم تعمر ولا جرى عليه ملك أحد وإحياؤها مباشرة عمارتها، وتأثير شيء فيها

1376- حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا عَبْدُ الْوَهّابِ الثقفي حدثنا أَيّوبُ، عنْ هِشَامُ بنِ عُرْوَةَ، عنْ أبِيهِ، عنْ سَعِيد بنِ زَيْدٍ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ ‏"‏مَنْ أَحْيَى أَرْضاً مَيّتَةً فَهِيَ لَهُ‏.‏ وَلَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقّ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ حَسَنٌ غريب‏.‏

وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ هِشَامٍ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، مُرْسَلاً‏.‏ والْعَمَلُ عَلَى هَذَا الحديث عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ الْعلْمِ وغَيْرِهِمْ وهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإسْحْاقَ‏.‏ قَالُوا‏:‏ لَهُ أنْ يُحْيِيَ الأرْضَ الْمَوَاتَ بِغَيْرِ إذْنِ السّلْطَانِ‏.‏ وقد قَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ لَهُ أنْ يُحْيِيَهَا إلاّ بِإذْنِ السّلْطَانِ وَالْقَوْلُ الأوّلُ أَصَحّ‏.‏

قال وفي البابِ عَنْ جَابِرٍ وَ عمَروِ بْنِ عَوْفٍ الْمُزْنِيّ جَدّ كَثِيرٍ وسَمُرَةَ‏.‏

حدثنا أبُو مُوسى مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ أَبَا الْوَلِيدِ الطّيَالِسِي عَنْ قَوْلِهِ ‏(‏وَلَيْسَ لِعِرق ظَالِم حَقّ‏)‏ فَقَالَ‏:‏ الْعِرْقُ الظّالِمُ‏:‏ الْغَاصِبُ الّذِي يَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهُ‏.‏ قلت‏:‏ هُوَ الرّجُلُ الّذِي يَغْرِسُ في أرْضِ غَيْرِهِ‏؟‏ وقَالَ‏:‏ هو ذَاكَ‏.‏

1377- حدثنا مُحَمّدُ بْنِ بَشّارٍ‏.‏ حَدّثنَا عَبْدُ الْوَهّابِ الثَقَفِيّ عنْ أَيّوبُ عَنْ هِشَامٍ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبٍ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ الله، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏مَنْ أَحْيَى أَرْضاً مَيّتَةَ فَهِيَ لَهُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من أحي أرضاً ميتة‏)‏ الأرض الميتة هي التي لم تعمر شبهت عمارتها بالحياة وتعطيلها بالموت‏.‏ قال الزرقاني‏:‏ ميتة بالتشديد‏.‏ قال العراقي‏:‏ ولا يقال بالتخفيف لأنه إذا خفف تحذف منه تاء التأنيث، والميتة والموات والموتان بفتح الميم والواو التي لم تعمر سميت بذلك تشبيهاً لها بالميتة التي لا ينتفع بها لعدم الانتفاع بها بزرع أو غرس أو بناء أو نحوها انتهى‏.‏ ‏(‏فهي له‏)‏ أي صارت تلك الأرض مملوكة له سواء كانت فيها قرب من العمران أم بعد سواء أذن له الإمام في ذلك أم لم يأذن وهذا قول الجمهور‏.‏ وعن أبي حنيفة لا بد من إذن الإمام مطلقاً وعن مالك‏:‏ فيما قرب‏.‏ وضابط القرب ما بأهل العمران إليه حاجة من رعي ونحوه‏.‏ واحتج الطحاوي للجمهور مع حديث الباب بالقياس على ماء البحر والنهر وما يصطاد من طير وحيوان‏.‏ فإنهم انفقوا على أن من أخذه أو صاده يملكه سواء قرب أو بعد سواء أذن الإمام أو لم يأذن‏.‏ كذا في الفتح‏.‏ قلت‏:‏ خالف أبا حنيفة صاحباه فقالا بقول الجمهور‏.‏ وحجة الجمهور حديث الباب وما في معناه وهو الظاهر الراجح وقد قال الترمذي إنه صح‏.‏ واستدل لأبي حنيفة بحديث الأرض لله ورسوله ثم لكم من بعدي فمن أحيى شيئاً من موتات الأرض فله رقبتها‏.‏ أخرجه ابن يوسف في كتاب الخراج فإنه أضافه إلى الله ورسوله، وكل ما أضيف إلى الله ورسوله لا يجوز أن يختص به إلا بإذن الإمام‏.‏ قلت‏:‏ لم أقف على سند هذا الحديث ولا أدري كيف هو وعلى تقدير صحته فالكبرى ممنوعة‏.‏ لحديث الباب ولقوله في هذا الحديث فمن أحيى شيئاً الخ فتفكر‏.‏ واستدل له أيضاً بحديث‏:‏ ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه‏.‏ قلت‏:‏ هذا حديث ضعيف قال الزيلعى في نصب الراية بعد ذكره‏:‏ رواه الطبراني وفيه ضعف من حديث معاذ انتهى ‏(‏وليس لعرق‏)‏ بكسر العين وسكون الراء وهو أحد عروق الشجرة ‏(‏ظالم‏)‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ في رواية الأكثر بتنوين عرق وظالم نعت له وهو راجع إلى صاحب العرق أي ليس لذي عرق ظالم أو إلى العرق أي ليس لعرق ذي ظلم‏.‏ ويروى بالإضافة ويكون الظالم صاحب العرق فيكون المراد بالعرق الأرض‏.‏ وبالأول جزم مالك والشافعي والأزهري وابن فارس وغيرهم، وبالغ الخطابي فغلط رواية الإضافة انتهى‏.‏ قال في النهاية‏:‏ هو أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله فيغرس فيها غرساٌ غصباً ليستوجب به الأرض والرواية لعرق بالتنوين وهو على حذف المضاف أي لذي عرق ظالم فجعل العرق نفسه ظالماً والحق لصاحبه أو يكون الظالم من صفة صاحب العرق، وإن روى عرق بالإضافة فيكون الظالم صاحب العرق وألحق المعرق، وهو أحد عروق الشجرة انتهى قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن غريب‏)‏ وأخرجه أبو داود والنسائي وسكت عنه أبو داود وأقر المنذري تحسين الترمذي‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه النسائي قوله‏:‏ ‏(‏وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً‏)‏ هذا المرسل أخرجه أبو داود والنسائي ومالك‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وهو قول أحمد وإسحاق‏)‏ وهو قول الجمهور كما تقدم ‏(‏وقالوا‏)‏ أي بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ‏(‏له‏)‏ أي يجوز لمن أراد إحياء الأرض الميتة ‏(‏وقال بعضهم ليس له أن يحييها إلا بإذن السلطان‏)‏ وهو قول أبي حنيفة رحمه الله قال محمد رحمه الله في الموطإ أبعد ذكر حديث الباب مرسلاً وأثر عن عمر رضي الله عنه بمثله ما لفظه‏:‏ قال محمد وبهذا نأخذ من أحيى أرضاً ميتة بإذن الإمام أو بغير إذنه فهي له‏.‏ فأما أبو حنيفة رحمه الله فقال لا يكون له إلا أن يجعلها له الإمام‏.‏ قال وينبغي للإمام إذا أحياها أن يجعلها له وإن لم يفعل لم تكن له انتهى‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن جابر رضي الله عنه‏)‏ لعله أشار إلى ما أخرجه النسائي عنه بلفظ‏:‏ من أحيى أرضاً ميتة فله فيها أجر وما أكلت العافية منها فهو له صدقة‏.‏ ‏(‏وعمرو بن عوف المزني جد كثير‏)‏ أخرجه ابن أبي شيبة والبزار في مسنديهما والطبراني في معجمه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعاً بلفظ حديث سعيد ابن زيد، ورواه ابن عدي في الكامل وأعله بكثير وضعفه عن أحمد والنسائي وابن معين جداً كذا في نصب الراية‏.‏ ‏(‏وسمرة‏)‏ لينظر من أخرج حديثه‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏قال سألت أبا الوليد الطيالسي‏)‏ هو هشام بن عبد الملك الباهلي مولاهم البصري الحافظ الإمام الحجة قال أحمد متقن‏.‏ وهو اليوم شيخ الإسلام ما أقدم عليه أحداً من المحدثين‏.‏ قال البخاري‏:‏ مات سنة سبع وعشرين ومائتين ‏(‏قلت هو الرجل الذي يغرس في أرض غيره‏)‏ بتقدير همزة الاستفهام والقائل هو محمد بن المثنى ‏(‏قال‏)‏ أي أبو الوليد‏.‏

933- باب ما جَاءَ في الْقَطَائع

‏(‏باب ما جاء في القطائع‏)‏ جمع قطيعة تقول أقطعته أرضاً جعلتها له قطيعة‏.‏ والمراد به ما يخص به الإمام بعض الرعية من الأرض الموات فيختص به ويصير أولى بإحيائه ممن لم يسبق إلى إحيائه واختصاص الاقطاع بالموات متفق عليه في كلام الشافعية‏.‏ وحكى عياض أن الإقطاع تسويغ الإمام من مال الله شيئاً لمن يراه أهلاً لذلك‏.‏ قال وأكثر ما يستعمل الأرض وهو أن يخرج منها لمن يراه ما يجوزه، إما بأن يملكه إياه فيعمره، وإما بأن يجعل له غلته مدة‏.‏ انتهى كذا في الفتح

1378- قَالَ‏:‏ قُلْتُ لقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ‏:‏ حَدّثَكُمْ مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بنّ قَيْسٍ المَأْرِبِيّ، حدثني أبي عَنْ ثمامَةَ بْنِ شُرَاحِيلَ، عَنْ سُمَيّ بنِ قَيْسٍ، عَنْ سميْرٍ، عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمّالٍ أَنّهُ وفَدَ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَقْطَعَهُ المِلْحَ، فَقَطَعَ لَهُ‏.‏ فَلَمّا أنْ وَلَى قَالَ رَجُلٌ منَ المَجْلِس‏:‏ أتَدْرِي مَا قَطَعْتَ لَهُ‏؟‏ إنّما قَطعَتَ لهُ المَاءَ الْعِدّ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَانْتَزَعَهُ مِنْهُ‏.‏ قَالَ، وَسألَهُ عَمّا يُحْمَى مِنَ الأرَاكِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا لَمْ تَنَلْهُ خِفَافُ الإبِلِ‏:‏ فأقَرّ بِهِ قُتَيْبَةُ، وَقالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏

حدثنا ابن أبي عَمْرو‏.‏ حَدّثنَا مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ قَيْسِ المَأْرِبيّ، بهذا الإسناد نحْوَهُ‏.‏

المآرب‏:‏ ناحية من اليمن‏.‏

قال وفي البابِ عَنْ وَائِلٍ وأَسْماءَ بنت أبي بَكْرٍ‏.‏

قال أبو عيسى حَدِيثُ أبْيَضَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ‏.‏ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ، في القَطَائِعِ‏.‏ يَرَوْنَ جَائِزاً أنْ يُقْطِعَ الإمَامُ لِمَنْ رَأَى ذَلِكَ‏.‏

1379- حدثنا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ‏.‏ حدّثَنَا أَبُو دَاوْدَ أخبرنا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَلْقَمَة بْنَ وَائِلٍ يُحَدّثُ عَنْ أبِيهِ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أقْطَعَهُ أرْضاً بِحضْرَموتَ‏.‏ قَالَ مَحْمُودٌ‏:‏ أخبرنا النّضْرُ عنْ شُعْبَةَ، وَزَادَ فِيهِ ‏(‏وَبَعَثَ له مُعَاوِيَةَ لِيُقْطِعِها إيّاهُ‏)‏‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ حسنٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت لقتيبة بن سعيد حدثكم محمد بن يحيى بن قيس‏)‏ قرأ الترمذي هذا الحديث على شيخه قتيبة بالقراءة عليه وهذا أحد وجوه التحمل‏.‏ قال السيوطي في تدريب الراوي‏:‏ وإذا قرأ على الشيخ قائلاً أخبرك فلان أو نحوه كما قلت أخبرنا فلان والشيخ مصغ إليه فاهم له غير منكر ولا مقر لفظ صح السماع، وجازت الرواية به اكتفاء بالقرائن الظاهرة، ولا يشترط نطق الشيخ بالإقرار كقوله نعم على الصحيح الذي قطع به جماهير أصحاب الفنون‏.‏ وشرط بعض أصحاب الشافعية والظاهريين نطقه به انتهى‏.‏ كلام السيوطي‏.‏ قلت قد أقر قتيبة بعد قراءة الترمذي هذا الحديث عليه ونطق بقوله نعم كما هو مصرح في آخر الحديث ‏(‏المأربي‏)‏ منسوب إلى مأرب بفتح الميم وسكون الهمزة وكسر الراء وقيل بفتحها موضع باليمين ‏(‏عن ثمامة‏)‏ بضم المثلثة ‏(‏بن شراحيل‏)‏ بفتح الشين المعجمة ‏(‏عن سمي‏)‏ بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء ‏(‏ابن قيس‏)‏ قال الحافظ مجهول ‏(‏عن شمير‏)‏ بضم الشين المعجمة وفتح الميم مصغراً ابن عبد الدار اليمامي مقبول من الثالثة ‏(‏عن أبيض بن حمال‏)‏ بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم ‏(‏وفد‏)‏ أي قدم ‏(‏استقطعه‏)‏ أي سأله أن يقطع إياه ‏(‏الملح‏)‏ أي معدن الملح ‏(‏فقطع له‏)‏ لظنه صلى الله عليه وسلم أنه يخرج منه الملح بعمل وكد ‏(‏فلما أن ولى‏)‏ أي أدبر ‏(‏قال رجل من المجلس‏)‏ وهو الأقرع بن حابس التميمي على ما ذكره الطيبي، وقيل إنه العباس بن مرداس ‏(‏الماء العد‏)‏ بكسر العين وتشديد الدال المهملة، أي الدائم الذي لا ينقطع والعد المهيأ ‏(‏قال‏)‏ أي الرجل قال ابن الملك والظاهر أنه أبيض الراوي قال القاري‏:‏ الأظهر أن فاعل قال هو الرجل وإلا فكان حقه أن يقوله فرجعه مني انتهى‏.‏ قلت عندي أن فاعل قال هو شمير الراوي عن أبيض فنفكر ‏(‏قال أي شمير‏)‏ الراوي ‏(‏وسأله‏)‏ أي الرجل النبي صلى الله عليه وسلم كذا في المرقاة‏.‏ وقال الشيخ عبد الحق في اللمعات‏:‏ أي سأل أبيض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت الظاهر عندي هو ما قال الشيخ ‏(‏عن ما يحمي‏)‏ بصيغة المجهول ‏"‏من الأراك‏"‏ بيان لما وهو القطعة من الأرض على ما في القاموس ولعل المراد منه الأرض التي فيها الأراك‏.‏ قال المظهر‏:‏ المراد من الحمى هنا الإحياء إذ الحمى المتعارف لا يجوز لأحد أن يخصه ‏(‏ما لم تنله‏)‏ بفتح النون أي لم تصله ‏"‏خفاف الإبل‏"‏ معناه ما كان بمعزل من المراعي والعمارات‏.‏ وفيه دليل على أن الإحياء لا يجوز بقرب العمارة لاحتياج أهل البلد إليه لرعي مواشيهم، وإليه أشار بقوله ما لم تنله خفاف الإبل‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ الخف الجمل المسن‏.‏ والمعنى أن ما قرب من المرعى لا يحمي بل يترك لمسان الإبل وما في معناها من الضعاف التي لا تقوى على الامعان في طلب المرعى وقال الطيبي رحمه الله‏:‏ وقيل يحتمل أن يكون المراد به أنه لا يحمي ما تناله الأخفاف ولا شيء منها إلا وتناله الأخفاف‏.‏ كذا في المرقاة‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏فأقربه وقال نعم‏)‏ هذا متعلق بقوله قلت لقتيبة بن سعيد حدثكم محمد بن يحيى الخ أي قال الترمذي لشيخه قتيبة حدثكم محمد بن يحيى الخ فأقر به قتيبة، وقال‏:‏ نعم‏.‏ وهذا أحد وجوه التحمل‏.‏ وقد مر تفصيله في ابتداء الكتاب في شرح قوله‏:‏ فأقربه الشيخ الثقة الأمين‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن وائل وأسماء إبنه أبي بكر‏)‏ أما حديث وائل فأخرجه الترمذي في هذا الباب وأما حديث أسماء فأخرجه أبو داود بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع للزبير نخيلاً‏.‏ قوله ‏(‏حديث أبيض بن حمال حديث حسن غريب‏)‏ وأخرجه ابن ماجة والدارمي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أقاطعه‏)‏ أي أعطى واثلاً ‏(‏أرضاً بحضرموت‏)‏ بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد وفتح الواو والميم اسم بلد باليمن‏.‏ وهما اسمان جعلا اسما واحداً فهو غير منصرف بالعلمية والتركيب‏.‏ وقال في القاموس بضم الميم بلد وقبيلة ‏(‏وبعث له‏)‏ أي مع وائل ‏(‏معاوية‏)‏ الظاهر أن المراد به هو ابن الحاكم السلمى، وابن جاهمة السلمي‏.‏ وأما معاوية بن أبي سفيان فهو وأبوه من مسلمة الفتح ثم هو من المؤلفة قلوبهم فهو غير ملائم للمرام وإن كان مطلق هذا الاسم ينصرف إليه في كل مقام قاله القاري‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه الدارمي‏.‏

934- باب مَا جاء في فَضْلِ الغَرس

‏(‏باب ما جاء في فضل الغرس‏)‏ بفتح الغين المعجمة وسكون الراء قال في الصراح غرس بالفتح نشاندن درخت

1380- حدثنا قُتَيْبَةُ‏.‏ حدّثنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عنْ أنَسٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً، أوْ يَزْرَعُ زَرْعاً، فَيأكلُ مِنْهُ إنسَانٌ، أوْ طَيْرٌ، أوْ بَهِيمَةٌ إلاّ كانَتْ لَهُ صدقَةٌ‏"‏‏.‏

قال وفي البابِ عنْ أبي أيّوبَ وجَابرٍ وَأُمّ مُبْشّرٍ وَزَيْدٍ بن خَالِد‏.‏

قال أبو عيسى حدِيثُ أنسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يغرس‏)‏ بكسر الراء‏.‏ قال في القاموس‏:‏ غرس الشجر يغرسه أثبته في الأرض كاغرسة والغرس المغروس ‏(‏أو يزرع‏)‏ أو للتنويع لأن الزرع غير الغرس ‏(‏زرعاً‏)‏ نصبه وكذا نصب غرساً على المصدرية أو على المفعولية ‏(‏فيأكل منه‏)‏ أي مما ذكر من المغروس أو المزروع ‏(‏إنسان‏)‏ ولو بالتعدي ‏(‏أو طير أو بهيمة‏)‏ أي ولو بغير اختياره ‏(‏إلا كانت له صدقة‏)‏ قال الطيبي الرواية برفع الصدقة على أن كانت تامة انتهى‏.‏ قال القاري‏:‏ وفي نسخة يعني من المشكاة بالنصب على أن الضمير راجع إلى المأكول وأنث لتأنيث الخبر انتهى‏.‏ والحديث رواه مسلم عن جابر وفيه‏:‏ وما سرق منه له صدقة‏.‏ وفي رواية له عنه‏:‏ لا يغرس مسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن أبي أيوب‏)‏ أخرجه أحمد عنه مرفوعاً‏:‏ ما من رجل يغرس غرساً إلا كتب الله من الأجر قدر ما يخرج من ذلك الغرس‏.‏ قال المنذري‏:‏ رواته محتج بهم في الصحيح إلا عبد الله بن عبد العزيز الليثي ‏(‏وأم مبشر‏)‏ بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الشين المشددة صحابية مشهورة امرأة زيد بن حارثة وحديثها أخرجه مسلم ‏(‏وجابر‏)‏ أخرجه مسلم ‏(‏وزيد بن خالد‏)‏ لينظر من أخرجه وفي الباب عن أحاديث أخرى ذكرها المنذري في الترغيب في باب الزرع وغرس الأشجار المثمرة‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏حديث أنس حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري ومسلم‏.‏

935- باب مَا ذُكِرَ في المُزَارَعة

‏(‏باب ما جاء في المزارعة‏)‏ المزارعة هي أن يعامل إنساناً على أرض ليتعهدها بالسقي والتربية على أن ما رزق الله تعالى من الحبوب يكون بينهما بجزء معين‏.‏ كذا في المرقاة‏.‏ والمراد بقوله بجزء معين كالنصف والربع والثلث

1381- حدثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصور‏.‏ أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبيدِ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابنِ عُمَرَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أهْلَ خَيْبَر بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمرٍ أوْ زَرْعٍ‏.‏ وفي البابِ عنْ أنَسٍ وابنِ عبّاس وزيدِ بنِ ثَابتٍ وجَابرٍ‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ والعَمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ‏.‏ لَمْ يَرَوْا بالمُزَارَعَةِ بَأْسَاً عَلَى النّصْفِ والثُلُثِ والرُبُعِ‏.‏

واخْتَار بَعْضُهُمْ أنْ يَكُونَ البَذْرُ مِنْ رَبّ الأرْضِ‏.‏ وهُوَ قَوْل أَحْمدَ وإسْحاقَ‏.‏ وكرِهَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ المُزَارِعَةَ بِالثُلُثِ والرّبُعِ‏.‏ ولَمْ يَرَوْا بِمُسَاقَاةِ النّخِيلِ بِالثُلُثُ والرُبُعِ بَأْساً‏.‏ وهُوَ قَوْلُ مالِكِ بنِ أنَسِ والشّافِعِيّ‏.‏ ولمْ يَرَ بَعْضُهُمْ أنْ يَصِحّ شَيْءٌ مِنَ المُزَارَعَةِ، إلاّ أنْ يَسْتأْجِرَ الأرْضَ بِالذّهبِ والفِضّةِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عامل أهل خيبر‏)‏ وهو يهود خيبر وهو موضع قريب المدينة غير منصرف ‏(‏بشطر ما يخرج‏)‏ أي بنصفه فالشطر هنا بمعنى النصف وقد يأتي بمعنى النحو كقوله تعالى ‏{‏فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ أي نحوه ‏(‏منها‏)‏ أي من خيبر يعني من نخلها وزرعها‏.‏ والحديث دليل على جواز المزارعة بالجزء المعلوم من نصف أو ربع أو ثمن وهو الحق‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن أنس‏)‏ لينظر من أخرجه ‏(‏وابن عباس‏)‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف‏.‏ أخرجه أحمد وابن ماجه‏.‏ ‏(‏وزيد بن ثابت‏)‏ أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وسيأتي لفظه في الباب الذي بعده ‏(‏وجابر‏)‏ لينظر من أخرجه‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ أخرجه الجماعة قوله‏:‏ ‏(‏ولم يروا بالمزارعة بأساً على النصف والثلث والربع الخ‏)‏ وهو قول الجمهور‏.‏ قال الشيخ عبد الحق الدهلوي‏:‏ المساقاة أن يدفع الرجل أشجاره إلى غيره ليعمل فيه ويصلحها بالسقي والتربية على سهم معين كنصف أو ثلث، والمزارعة عقد على الأرض ببعض الخارج كذلك‏.‏ والمساقاة تكون في الأشجار والمزارعة في الأراضي، وحكمها واحد، وهما فاسدان عند أبي حنيفة‏.‏ وعند صاحبيه والاَخرين من الأئمة جائز‏.‏ وقيل لا نرى أحداً من أهل العلم عنهما إلا أبو حنيفة، وقيل زفر معه‏.‏ وقال في الهداية‏:‏ الفتوى على قولهما والدليل للأئمة ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع‏.‏ ولأبي حنيفة ما روى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة وهي المزارعة انتهى كلامه‏.‏ قلت‏:‏ أحاديث النهي عن المخابرة محمولة على التنزيه أو على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها معينة كما يدل عليه أحاديث ذكرها صاحب المنتقى‏.‏ وقال بعد ذكرها وما ورد من النهي المطلق عن المخابرة والمزارعة يحمل على ما فيه مفسدة كما بينته هذه الأحاديث أو يحمل على اجتنابها ندباً واستحباباً، فقد جاء ما يدل على ذلك ثم ذكر أحاديث تدل على أن النهي عن المخابرة والمزارعة ليس للتحريم بل هو للتنزيه‏.‏

قال الشوكاني في النيل‏:‏ كلام المصنف يعني صاحب المنتقى هذا كلام حسن ولا بد من المصير إليه للجمع بين الأحاديث المختلفة‏.‏ وهو الذي رجحناه فيما سلف انتهى‏.‏ قلت‏:‏ الأمر كما قال الشوكاني، وقال الحافظ في الفتح هذا الحديث يعني حديث الباب هو عمدة من أجاز المزارعة والمخابرة لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، واستمراره على عهد أبي بكر إلى أن أجلاهم عمر‏.‏ واستدل به على جواز المساقاة في النخل والكرم وجميع الشجر الذي من شأنه أن يثمر بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمرة‏.‏ وبه قال الجمهور وخصه الشافعي في الجديد بالنخل والكرم وألحق المقل بالنخل لشبهه به، وخصه أبو داود بالنخل، وقال أبو حنيفة وزفر‏:‏ لا يجوز بحال لأنها إجارة بثمرة معدومة أو مجهولة‏.‏ وأجاب من جوزه بأنه عقد على عمل في المال ببعض نمائه فهو كالمضاربة لأن المضارب يعمل في المال بجزء من نمائه وهو معدوم ومجهول‏:‏ وقد صح عقد الإجارة مع أن المنافع معدومة‏.‏ فكذلك هنا وأيضاً فالقياس في إبطال نص أو إجماع مردود‏.‏ وأجاب بعضهم عن قصة خيبر بأنها فتحت صلحاً وأقروا على أن الأرض ملكهم بشرط أن يعطوا نصف الثمرة‏.‏ فكان ذلك يؤخذ بحق الجزية فلا يدل على جواز المساقاة‏.‏ وتعقب بأن معظم خيبر فتح عنوة وبأن كثيراً منها قسم بين العانمين وبأن عمر أجلاهم منها فلو كانت الأرض ملكهم ما أجلاهم عنها‏.‏ واستدل من أجازه في جميع الثمر بأن في بعض طرق حديث الباب بشطر ما يخرج منها من نخل وشجر‏.‏ وفي رواية عند البيهقي على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشجر انتهى‏.‏ ‏(‏واختار بعضهم أن يكون البذر من رب الأرض‏)‏ أي مالكها‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ واستدل به يعني بحديث الباب على جواز البذر من العامل أو المالك لعدم تقييده في الحديث بشيء من ذلك‏.‏ واحتج من منع بأن العامل حينئذ كأنه باع البذر من صاحب الأرض بمجهول من الطعام نسيئة وهو لا يجوز‏.‏ وأجاب من أجازه بأنه مستثنى من النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة جمعاً بين الحديثين، وهو أولى من إلغاء أحدهما انتهى‏.‏ ‏(‏وهو قول مالك بن أنس والشافعي‏)‏ والراجح أن المزارعة بالثلث والربع، والمساقاة بالثلث والربع كلاهما جائز غير مكروه كما عرفت‏.‏ ‏(‏ولم ير بعضهم أن يصح شيء من المزارعة الخ‏)‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ وبالغ ربيعة فقال لا يجوز كراءها إلا بالذهب أو الفضة‏.‏ وقال طاوس وطائفة قليلة‏:‏ لا يجوز كراء الأرض مطلقاً وذهب إليه ابن حزم وقواه، واحتج له بالأحاديث المطلقة في ذلك انتهى‏.‏

936- باب من المزارعة

1382- حدثنا هَنّادٌ‏.‏ حدّثنَا أبُو بَكْرِ بنُ عَيّاشِ‏.‏ عنْ أبي حُصَيْنٍ، عنْ مُجَاهِدٍ، عنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ، قالَ‏:‏ نهَانَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أمْرٍ كانَ لَنَا نَافِعاً‏.‏ إذَا كانَتْ لأِحَدِنَا أرْضٌ أنْ يُعْطِيهَا بِبَعْضِ خَرَاجِهَا أوْ بدَرَاهِمَ‏.‏ وقالَ ‏"‏إذَا كانَتْ لأِحَدِكُمْ أرْضٌ فَلْيَمْنَحْهَا أخَاهُ أوْ لِيزْرَعْهَا‏"‏‏.‏

1383- حدثنا مَحْمودُ بنُ غَيْلاَنَ‏.‏ أخبرنا الفَضْلُ بنُ مُوسى الشّيْبَانِيّ‏.‏ أخبرنا شَرِيكٌ عنْ شُعْبَةَ، عنْ عمْرو بنِ دِينارٍ، عنْ طَاوُسٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَرّمِ المُزَارَعَةَ‏.‏

وَلكنْ أمَرَ أنْ يَرْفُقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ‏.‏

قال أبو عيسى هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وحديثُ رَافِعٍ فيهِ اضْطِرابٌ‏.‏ يُرْوَى هذَا الحديثُ عنْ رَافِعِ بنِ خَديجٍ، عنْ عُمُومَتِهِ‏.‏ ويُرْوَى عَنْهُ عنْ ظُهَيْرِ ابنِ رَافِعٍ، وهُوَا أحَدُ عُمُومَتَهِ‏.‏ وقَدْ رُوِيَ هذَا الحدِيثُ عَنْهُ عَلَى رِوَاياتٍ مُخْتَلِفَةٍ‏.‏ وفي الباب عنْ زَيْدِ بنِ ثَابتٍ وجابر رضي الله عنهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن يعطيها‏)‏ أي نهى عن أن يعطيها ‏(‏بعض خراجها‏)‏ أي ببعض ما يخرج من الأرض ‏(‏أو بدراهم‏)‏ احتج به من قال بعدم جواز كراء الأرض مطلقاً لكن هذا الحديث ضعيف‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ وأما ما رواه الترمذي من طريق مجاهد عن رافع بن خديج في النهي عن كراء الأرض ببعض خراجها أو بدراهم‏.‏ فقد أعله النسائي بأن مجاهداً لم يسعه من رافع‏.‏

قال الحافظ‏:‏ ورواية أبو بكر بن عياش في حفظه مقال، وقد رواه أبو عوانة وهو أحفظ منه عن شيخه فيه، فلم يذكر الدراهم‏.‏ وقد روى مسلم من طريق سليمان بن يسار عن رافع بن خديج في حديثه ولم يكن يومئذ ذهب ولا فضة انتهى‏.‏ ‏(‏فليمنحها‏)‏ بفتح التحتية وسكون الميم وفتح النون بعدها حاء مهملة ويجوز كسر النون والمراد يجعلها منيحة وعارية أي ليعطها مجاناً ‏(‏أخاه‏)‏ ليزرعها هو ‏(‏أو ليزرعها‏)‏ أي أحدكم نفسه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يحرم المزارعة الخ‏)‏ فيه دليل على أن في حديث النهي عن المزارعة ليس للتحريم بل للتنزيه كما تقدم‏.‏ ويدل على ذلك أيضاً ما رواه البخاري وغيره عن عمرو بن دينار قال‏:‏ قلت لطاؤوس لو يركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها‏.‏ فقال‏:‏ إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها‏.‏ وقال‏:‏ لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً‏.‏ ‏(‏لكن أمر أن يرفق‏)‏ من الرفق وهو اللطف من باب نصر‏.‏ قال في الصراح‏:‏ رفق بالكسر نرمي كردن ضد العنف صلته بالباء انتهى‏.‏ وقال في القاموس‏:‏ الرفق بالكسر ما استعين به رفق به وعليه مثلثة رفقاً ومرفقاً كمجلس ومقعد ومنبر انتهى‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري بلفظ آخر وقد تقدم‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن زيد بن ثابت‏)‏ أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عروة بن الزبير قال‏:‏ قال زيد بن ثابت‏:‏ يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتى رجلان قد اقتتلا فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏إن كان هذا شأنكم فلا تكروا طريق المزارع‏"‏، فسمع رافع قوله‏:‏ لا تكروا المزارع‏.‏ وهذا حديث حسن كذا في نصب الراية‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏حديث رافع حديث فيه أضطراب الخ‏)‏ روى مسلم وغيره حديث رافع بألفاظ مختلفة بعضها مختصرة، وبعضها مطولة وفي الباب عن جابر قال‏:‏ كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإن لم يفعل فليمسك أرضه‏"‏‏.‏ رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً‏:‏ من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه‏.‏ رواه البخاري وغيره‏.‏ قال الحافظ في فتح الباري‏:‏ قد استظهر البخاري لحديث رافع بحديث جابر وأبي هريرة راداً على من زعم أن حديث رافع فرد، وأنه مضطرب‏.‏ وأشار إلى صحة الطريقين عنه حيث روى عن عمه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد روى عن عمه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى أن روايته بغير واسطة مقتصرة على النهي عن كراء الأرض، وروايته عن عمه مفسرة للمراد وهو ما يينه ابن عباس في روايته من إرادة الرفق والتفضيل وأن النهي عن ذلك ليس للتحريم انتهى‏.‏